تعد معركة السيطرة على الصحن الحيدري الشريف حيث مرقد الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) واحدة من أكثر المعارك تعقيداً وشائكية من وجهة النظر السياسية والعسكرية. فمن ناحية أولى، تبدو عملية اعتصام الميليشيات المسلحة في المرقد المُطهر عملية لا يمكن أن تدوم طويلاً، ذلك أن هذا المرقد هو مآل أنظار الملايين من المسلمين في العالم من الهند حتى أفريقيا. لذا يبدو الاعتصام على هذه التربة الطهور وإحالتها إلى ميدان معركة يمكن أن يؤول إلى القتال ويحرم زائريه من أداء مراسيم الزيارة هو إجراء لابد وأن يكون زائلاً، ذلك أن هذا المربع المسوّر الذي يتوسط مدينة النجف الأشرف هو ملك لجميع المسلمين الذين يقطنون الأقاليم الشاسعة السابقة الذكر. ولا تقل عملية اقتحام الحضرة الشريفة خطورة كاستجابة لعملية عسكرة أو خندقة المكان ( يفضل البعض تسمية العملية اجتياح أو مداهمة أو تحرير أو حتى احتلال)، ذلك أن إراقة الدماء التي لابد وأن تحدث لا يمكن أن تتواءم مع قدسية وطبيعة الروضة الحيدرية. لذا تكون المفارقة صارخة بالنسبة للضمير الإسلامي، خاصة إذا ما أخذت رمزية الإمام علي للفضيلة وللزهد بنظر الاعتبار.
المرقد الشريف يتكون من قبة كبيرة ومنارتين عاليتين مكسوة جميعاً ببلاطات من الذهب الخالص. وترتفع هذه الشواخص العالية على جامع مهيب مكسوة جدرانه الخارجية بالذهب كذلك، زيادة على بدائع الأعمال الفنية من خطوط عربية وفسيفساء وتصاوير هي من أبدع ما قدمه الفنان المسلم عبر التاريخ، خاصة وأن العمل الفني هنا لم يكن مدفوعاً بحب المال بقدر ما كانت كل آجرة موضوعة فيه مدفوعة بروح التضحية والعطاء الروحي وهي تدفع الفنان إلى الأعالي. ويحيط بالمسجد المهيب صحن واسع محاط بسور عظيم مطرز بالحجرات التي تستعمل للدراسة وللمحاضرات وللمناظرات في الفقه الإسلامي والعلوم اللغوية. هذا هو الوصف المبسط للروضة الحيدرية. بيد أن التعقيد يتبلور في أن هذه الروضة محاطة من ثلاث جهات بأحياء النجف القديمة حيث تزدحم البيوت والأسواق وتضيق خوانق الممرات والأزقة بينها (بعض الأزقة هي بدرجة من الضيق أنها لا تسمح بمرور أكثر من شخص واحد)، زيادة على ما يمخر أرض هذه المنازل من سراديب وممرات أخرى تقع تحت سطح الأرض وتربط البيت بشبكة بالبيوت الأخرى. أما من الجهة الرابعة فتمتد مواقف للسيارات تؤول إلى ما يسمى بـ (بحر النجف)، وهو منخفض هائل (يقال إنه كان جزءاً من الخليج العربي الذي كان يمتد حتى هذه المنطقة في العصر السومري والذي انحسر عبر الدهور بسبب أطنان الغرين أو الرمال المنجرفة التي يضخها جريان الفرات ودجلة كل سنة). بحر النجف الخصيب تقطنه اليوم العشائر العربية من البدو الذين تحولوا إلى الاستقرار والزراعة برغم تمسكهم بالقيم البدوية المتوارثة. ويمكن أن يكون البحر أحد مغذيات الميليشات بسبب ما عُرف عن عشائره من تدين وتمسك بالطبيعة البدوية شديدة المراس. ولا تبتعد أكبر مقبرة في العالم، وادي السلام، كثيراً عن الروضة الحيدرية حيث تزدحم ملايين القبور، وبطبقات تحت الأرض (قبور فوق أخرى) في وادٍ رملي واسع لا يمكن لأية قوة عسكرية أن تسيطر عليه بسبب هذا التزاحم وبسبب اسلوب بناء القبور المعروف في النجف الأشرف: إذ يكون القبر عبارة عن سرداب (خانق تحت أرضي) تحفر القبور في جدرانه الترابية من جميع الجهات كي يرقد أفراد الأسرة الواحدة جنباً إلى جنب حتى بعد مماتهم. هذا التعقيد الطوبوغرافي يجعل من السيطرة المحكمة على النجف عملاً مستحيلاً لأية قوة عسكرية مهماً عظمت تقنياتها وأدواتها.
وإذا كان الجامع الذي يضم أبي تراب (وهو أحد أسماء الإمام علي المعروف بافتراشه التراب) مغطى بالكامل ببلاطات من الذهب، فإن خزائن الإمام تكمن على كنوز لا يمكن لبشر أن يحصرها أو أن يقدّر قيمتها. هذه الكنوز هي هدايا ونذور أجيال متتابعة من المسلمين الذين زاروا المرقد الشريف عبر القرون، خاصة هؤلاء الذين يعدون هذه الزيارة بدرجة من القدسية أن من يقوم بمثلها يطلق عليه اسم الزاير فلان (كما يقال الحاج فلان)، بدلاً عن اسمه منفرداً. كما تحتوي هذه الخزائن على هدايا أجيال أخرى من الأباطرة والملوك والأمراء والرؤساء الذين حكموا بلدانهم من السند والهند حتى المحيط الأطلسي. وللمرء أن يخمن ما يمكن للأباطرة أن يقدموه لهذا الإمام ولمثل هذا المكان العابق بالتاريخ والحكمة العلوية التي أذهلت أذكى العقول في العالم من توماس كارلايل Carlyle حتى رالف والدو أمرسون Emerson. وبغض النظر عن هذه الكنوز، يتناقل النجفيون حكايات نصف أسطورية عن محتويات أخرى في خزائن الإمام، ومنها إحتوائها على الدرة الشهيرة التي لا مثيل لها، وعلى مخطوطات كتبت بأيدي الإمام صاحب نهج البلاغة، زيادة على الحديث عن وجود سيفه، ذو الفقار، هناك (سبق وأن زرت متحف تولكابي في إسطنبول حيث يعرض سيف على أنه سيف الإمام علي).
لم يتم اجتياح الروضة الحيدرية في التاريخ إلاّ من قبل قوات النظام السابق بعد التمرد الذي تبع انسحاب القوات العراقية من الكويت. ولم يزل الناس يتحدثون عن هذه الواقعة الرهيبة بالكثير من الحكايات والمبالغات التي تصل حد الادعاء بـ (سرقة) بعض محتويات خزائن الإمام. لذا تكون السيطرة من قبل جهة معينة على الصحن محفوفة بالمخاطر، فأبسط ما يمكن أن يوجه إليها هو تهمة العبث بالمحتويات الأسطورية فوق الثمينة. وهذا ما يجعل من عملية تسليم الصحن الشريف من قبل الميليشيات المعتصمة بداخله إلى المرجعية الدينية عملية شديدة التعقيد، الأمر الذي يبرر المطالبة بلجنة لـ (جرد الموجودات): الميليشيات تخشى التهم والمسؤولية، والمرجعية تخشى التسليم خوفاً من ضياع أي شيء حتى وإن كان قطعة صغيرة من البلاط الذهبي المشحون بقدسية الراقد العظيم.
أما القوات العراقية المدعومة بالقوات المتعددة الجنسيات، فهي الأخرى في حرج وقلق من مثل هذه العملية ومن تداعياتها وحتى من جدواها السياسية. المعتصمون داخل الروضة الحيدرية هم من الميليشيات الذين لا يرتدون بزات عسكرية تميزهم عن غيرهم من المواطنين. وإذا ما عمدت القوات النظامية إلى تشكيل كماشة حول الروضة، فإن هذه الكماشة، مهما كانت محكمة، لا يمكن أن تمسك بجميع المعتصمين في الداخل، نظراً لتعقيد الأماكن المحيطة بالروضة الحيدرية وملاحقتها لزحمة المنازل والقبور والأزقة والسراديب التحت أرضية. هذا ما يجعل العملية العسكرية ناجحة بقدر تعلق الأمر بسيطرة القوات النظامية على الروضة، ولكن ليس بقدر تعلق الأمر بالإمساك بالمعتصمين الذين لابد وأن يتسربوا إلى المحيط الخارجي كما يتسرب الماء من بين أصابع أيدي الإنسان. وهنا تتبلور العقدة الشائكة: فإذا ما كانت المعركة الآن متمحورة حول البقعة المشرّفة حيث يمكن استمكان المعتصمين من قبل القوات النظامية، فإن عملية الإجتياح (زيادة على ما يمكن أن تتسبب به من حمامات دم) يمكن أن تؤدي إلى انتشار هذه الميليشيات المسلحة نحو المحيط إلى جميع بقاع النجف المحيطة بالكماشة، الأمر الذي سيؤول إلى توسع طردي مضاعف لجبهة المعركة بالنسبة للقوات النظامية التي لم تزل قوات فتية في طور التكوين. وهذا يعني أن الاقتحام سيؤدي إلى أن الرصاص سوف لن ينطلق من دائرة الحضرة العلوية باتجاه قوات الكماشة فقط، وإنما سينطلق كذلك من الدائرة الأوسع المحيطة بهذه القوات. وهذا يعكس، عسكرياً، انفلات حدود المعركة من السيطرة واتساعها جغرافياً على نحو تختلط فيه الجهات المتصارعة بشكل قد يفجر حرباً أهلية داخل النجف الأشرف، خاصة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار وجود ميليشيات أخرى ذات مشارب مختلفة تنافس الميليشات المعتصمة في الروضة الحيدرية. زد على ذلك أن المدينة القديمة هي نفسها من نفائس المدن في العالم، حيث تزدحم بالأسر العلمية الشهيرة وبيوت العلم ومدارس الفقه، ربما، بمئات الآلاف من أندر مخطوطات الثقافة العربية الإسلامية. هذه كنوز لا يعرف أسرارها أحد، لأن المخطوطات الموجودة لدى الأسر النجفية العريقة إنما تحفظ كما تحفظ الكنوز: فتحاط بالسرية ويكون تداولها بالكتمان خشية اكتشافها من قبل جهات حكومية أو تجارية تحاول فك احتكارها النجفي.
إن معركة النجف يمكن أن تكون المعركة الفصل في تاريخ العراق الحديث، نظراً لاحتمالات اتساع جبهاتها، وبسبب هؤلاء الذين ينتظرون الآن (خارج النجف) كمتفرجين وهم يترقبون فرصة امتطاء مثل هذه المعركة لتحقيق أهدافهم السياسية والعسكرية. وإذا كان المراقب الخارجي يعتقد بأن المواجهة هي مجرد معركة تقليدية للسيطرة على بقعة صغيرة، فإنه خاطيء بسبب الأبعاد الروحية والاجتماعية التي تحيط بالنجف الأشرف كما تحيط الهالة بالقمر، ناهيك عما مر ذكره من تعقيدات هذه المدينة كبنية حضرية وكواحدة من عواصم الثقافة العربية الإسلامية، وكشاخص إسلامي يستمد عظمته من عظمة الراقد في هذه التربة الذي قال لحظة ضربه بالسيف وهو راكع في المحراب: فزت ورب الكعبة.