سيبقى التاريخ مفتوحاً على آفاق “لا نهاية لها، ولن يسدل الستار على أي فصل من هذه الدراما الكونية، التي تتعدد أنماط قراءاتها، مثلما يتعدد تأويل كل تفصيل من تفاصيلها، وفقاً للأهواء تارة ووفقاً للايديولوجيا تارة أخرى”.

وما من شيء مثير لشهية المؤرخين وخيالهم كالمصائر الغامضة لصانعي التاريخ، إذا قبلنا بذلك التصنيف الحاسم الذي قدمه محمد علي الكبير عندما قال: هناك من يصنعون التاريخ.. وهناك من يكتبونه، وهو بالطبع صانع تاريخ، حتى لو لم يدرج اسمه على القائمة.

ومصير أدولف هتلر، قد يكون الأشد غموضاً بين مصائر من أقاموا الدنيا ولم يقعدوها في عصرهم فالفوهرر ملأ الدنيا وشغل الناس ردهاً من الزمن، لكنه أخيراً توارى، وأطفأت الحرب العالمية الثانية آخر شمعة أوقدها في الملجأ، حيث لم يجد بجواره من الألمان كلهم غير ايفا براون والدكتور مايلر. والفيلم الجديد الذي سيعرض قريباً على الشاشات الألمانية مكرس لآخر اسبوعين في حياة هتلر.. ويشارك فيه عدد من أبرز النجوم في ألمانيا، وحسب ما تقول الأنباء والدعايات الممهدة لهذا الفيلم فإنه يحاول إنصاف الفوهرر، ويظهر شيئا من انسانيته التي حذفها الغرب حتى آخر نقطة، بحيث تحول الرجل الى امثولة للطغيان والديكتاتورية والعنصرية، وسبق للعديد من الكتاب الألمان ان كتبوا من زوايا مختلفة من الفوهرر وعن الحقبة النازية، ومنهم “ريمارك” وغونتر غراس وآخرون، وان كان ريمارك قد كتب عن هتلر حياً، عندما كان في ربيعه، وكان الكاتب ريمارك في تلك الأيام منفياً الى لندن، واستطاع ان يسرب احدى رواياته الى الصحف الالمانية باسم مستعار، الى ان استطاع وزير هتلر للاعلام والمدرب على شم رائحة الحبر، ان يتعرف على اسلوب ريمارك، وبالتالي يعاقب من نشروا فصولاً من روايته.

وريمارك صاحب روايتين من أشهر الروايات من زمن الحرب، هما “كل شيء هادىء في الحي الغربي” و”للموت وقت وللحب وقت”، والعنوان مستعار من العهد القديم.

لكن غونتر غراس الحائز على جائزة نوبل قبل أعوام قليلة، والذي يقف الى جوار مضطهدي هذا العصر، عثر على مدخل آخر، الى عالم الفوهرر فكتب متسائلاً عن مصير كلابه المدللة.

ما الذي سيقوله السينارست لهذا الفيلم الجديد عن هتلر بعد اكثر من نصف قرن على غروبه؟ وهل هناك صفحات مطوية يمكن الكشف عنها على نحو يباغت العالم؟

الأرجح ان مثل هذه الصفحات لم يعثر عليها أحد، لأنها ببساطة غير موجودة، تماماً كما هو مصير من تنسب اليه غامض.

لقد تعددت الحكايات حتى بلغت الخرافة عن مصير هتلر، فثمة من ادعى انه شاهده في زقاق ما بإحدى المدن الاوروبية، وثمة من أقسم بأنه تحدث اليه، لكن مثل هذه الحكايات غالباً ما تلبي نزعة بشرية للتفرد بالكشف عن المجهول، حتى لو كان الأمر مجرد أوهام من ابتكار الخيال.

وما كتب حتى الآن عن الاسكندر الكبير وبسمارك ونابليون يجزم بأن هؤلاء تعددوا داخل ثيابهم وتحت قبعاتهم المطرزة، فما من نابليون واحد، وما من اسكندر واحد، ما دام هناك من يبحث عن الخير وحده.. ويقابله من يبحث عن الشر فقط والانسان ليس شيطاناً أو ملاكاً، رغم ان الاعلام منذ الحرب العالمية الثانية بدأ يشيطن هتلر، أو “يؤبلسه” نسبة الى ابليس.

وقد يستغرب القارىء العربي اذا قرأ ما كتبه روسي عن ستالين في ذروة تسلطه وجبروته، فهو لم يقنع حتى المرأة التي عشقها.. وخانته مع رجل أقل منه بكل المقاييس الرائجة في زمنه، وأمه كانت تناديه باسم “سوسو” لأنها لا ترى فيه ما يراه الآخرون، ولم يكبر بنظرها ولم يتحول الى ديكتاتور حديدي.

حتى نابليون بونابرت كان جباراً أمام فرسانه ومساعديه.. لكنه أشبه بأرنب داجن أمام السيدة جوزفين التي يقال إنها كانت تتلذذ بإذلاله.

وإذا كان هناك من الفرنسيين من يرى ان بونابرت صانع امبراطورية، فإن آخرين يرون فيه الأحمق المسؤول عن انحسار فرنسا الامبراطورية، وضياع الكثير من ممتلكاتها، وأخيراً هزيمتها.

فالرجل انتهى عند صخرة في سانت هيلانة ولم تسمع أوروبا بموته إلا بعد أسابيع، وهي المدة التي استغرقتها الخيول لإبلاغ النبأ.

هتلر ليس مجرد واحد من تلك السلالة التي حلمت بالهيمنة على الكوكب برمته، فهو أيضا مثال قد لا يتكرر إلا على نحو كوميدي للاستفراد بالقرار وفرض رؤيته على العالم.

وبالرغم من اننا لم نشاهد الفيلم الجديد بعد، إلا ان الخيال يقتادنا الى توقعات عديدة، منها التركيز مثلاً على الجانب العاطفي في حياة الفوهرر، او التركيز على معاناته الجسدية، وهو الذي كان يكابد أمراضاً مزمنة، أهمها اضطراب الأمعاء الذي كان يفسد عليه حتى لقاءاته بالجنرالات في دار المستشارية.

وهتلر لم يعد اسماً فقط، بعد ان حولته الميديا الغربية الى مصطلح، ف “الهَتْلرة” هي التهمة الجاهزة لمن يوصفون بأنهم يقتفون خطى الفوهرر ويشبهونه من حيث التفرد بالحكم، ومعاداة الديمقراطية وتصنيف الشعوب عرقياً.

وما يجب التذكير به هو ان العقدين الأخيرين خلخلا الكثير من المعتقدات التي كانت راسخة وبمثابة البدهيات في الذاكرة الانسانية، ولم يعد هتلر آخر الطغاة، بل هناك من تجاوزوه لكن سطوتهم ونفوذ اعلامهم حالا دون افتضاح أدوارهم، وجوبلز وزير دعاية الفوهرر تكرر في عصرنا مرات عديدة وبأسماء مختلفة، والدليل هو ان من كذبوا وكذبوا.. صدّقوا أنفسهم أخيراً.