مخيف ذلك الحال الثقافي الذي نعيشه، فقد علا صوت أشباه المثقفين وامتلأت الساحة بقساوسة جلد الذات، يعملون فينا حرابهم بيد ويرفعون راية أميركية باليد الأخرى، لم يتركوا شيئا في حاضرنا إلا شوهوه.
ولا شيئا في ماضينا إلا جعلوه مسخا استهزأوا به وطمروه في التراب ونسبوا ما لم يستطيعوا تشويهه إلى أقوام آخرين غير العرب.يدعون الثقافة وهم أبعد ما يكونون عنها، يرطنون بلغات أجنبية لإيهام أشباه الأميين بأنهم حملة مشاعل، ودعاة تحضر، يأتون بغريب الأفكار المستنبتة في غرف المخابرات الغربية ليوهمونا بأنهم يريدون إيقاظ الأمة من غفوتها تفتح لهم الصحف والمواقع الإلكترونية، يمنحون تراخيص الأحزاب والمحطات الفضائية.
وتتعامل معهم العواصم الغربية على أنهم مفكرون كبار ينبغي إحاطتهم بالإجلال في حلهم وترحالهم، ينظرون إليك من عل إذا ناقشتهم أو فندت رأيا من آرائهم وكأنك تجرأت على مقدس رغم أن أول سطر في كتاباتهم بشكل دائم هدم المقدس، يمسكون بأقلامهم المغموسة بحبر أجنبي فيتطاولون على من كانوا يتشرفون بالأمس بمجرد إثارة انتباههم.
حينما تجد أحدهم يتطاول على رأي لشخص مثل هيكل صحيحا كان أم خاطئا تبدي دهشة لا مفر منها وتسأل نفسك هل كانوا يفعلون الشيء نفسه لو أن الكاتب المصري ذائع الصيت يروج نفس خطابهم أم كانوا سيعتبرونه مفكرا لم يجد الزمان بمثله ويطالبون بمنحه جائزة نوبل، يتحدثون عن مريدين للرجل وليس هناك مريدون، بل هناك مشتاقون إلى سماع الحقيقة والتنبيه إلى مواضع الخلل الذي نعيشه دون بث رسالة يأس.
فمريدو هيكل هم الذين فتحوا النار عليه يوم اختار أن يمارس السياسة ويعين رئيسا في الحكم على طبقة سياسية كانت أقرب لمواجهة المتطلبات وأكثر قدرة على مواجهة التحديات، وهم أنفسهم الذين اعتبروا صمته واعتزاله الكتابة خيانة لدوره وتنكرا لماضيه، وترفا لا تحتمله الظروف الحاضرة.
أشباه المثقفين هؤلاء يحاولون أن يجعلونا نكره حاضرنا وماضينا، طالبين منا الاعتراف فرادى وزرافات بالمسئولية عن الإرهاب الدولي لأن تسعة عشر عربيا ارتكبوا حماقة الحادي عشر من سبتمبر، ولو ركع الثلاثمئة مليون عربي على عتبات البيت الأبيض طالبين العفو والسماح ما أرضاهم ذلك.
نعم كان تفجير مركز التجارة العالمي ومقر البنتاغون عملا إرهابيا ضد أبرياء لم يكن ينبغي أن يحدث، كان عملا متهورا ضد ثقافتنا وقيمنا وديننا وأخلاقنا. كان خطأ لأناس دفعنا ثمنه غاليا مطاردة لأبنائنا في أفغانستان بنسائهم وأطفالهم، واحتلالا لثاني أكبر عاصمة عربية وأكثرها إشعاعا حضاريا على مر التاريخ.
دفعنا الثمن حين كان المئات منا وقودا لمعتقل غوانتانامو وساحة لتجريب الأسلحة الممنوعة، دفعناه حصارا لقرى فلسطين وتجريدا لنضال أبنائها من المشروعية واغتيالا وقتلا للمئات وسجنا للآلاف، وجدارا عنصريا يتلوى يلتهم الأرض والبيوت والأحلام في فلسطين.
دفعنا الثمن من كرامتنا وإرادتنا السياسية ونظرتنا للمستقبل، فرضت الوصاية على تعليم مدارسنا وآذان مساجدنا وعناوين صحفنا وبث فضائياتنا ومحتوى أفكارنا، دفعناه بمخاوفنا وهواجسنا من أن يغضب السيد المجروح الكرامة في 11 سبتمبر أو أحد ذيوله أو أتباعه أو عسسه.
ما هو الثمن الذي ينبغي علينا دفعه بعد كل ذلك إلا أن تكون الأحداث ذريعة لتنفيذ خطط جاهزة جوهرها اقتلاعنا من ثقافتنا وحضارتنا ومحو وجودنا وإدخالنا في حالة من أمية الفكر والروح، وهل نحن أول أمة في التاريخ يخرج عدد من أبنائها ليرتكبوا أفعالا شائنة باسم الدفاع عنها، وأين ذهب التاريخ الدموي لأوروبا وأميركا استعمارا وقتلا ونهبا واستعبادا، لماذا زالت كل صور الإرهاب عبر التاريخ وثبتت وحدها صورة الحادي عشر من سبتمبر..
حينما كنا نحن العرب المعتدين لمرة أولى وأخيرة في التاريخ وليس المعتدى علينا في بحر البقر ودير ياسين وقبية وغزة وصبرا وشاتيلا وجنين، نحن في النهاية مارسنا إرهابا لمرة واحدة، فماله لا يغفرها الإرهاب اليومي الذي يمارس ضدنا من الفلوجة الى النجف إلى سامراء إلى بغداد إلى نابلس ورام الله والقدس وغزة ورفح.
ولماذا يشير البعض بإصبع الاتهام لقرآننا وعاداتنا وتقاليدنا وأغانينا الحماسية والعاطفية ولون بشرتنا وطريقة ملبسنا وصلواتنا وزكاتنا، وكيف نغير ذلك كله؟إن هؤلاء المتثاقفين ليسوا مثقفين، لا يعبرون عن العرب قيما ومحتوى أخلاقيا وإن نطقوا بالعربية وكتبوا بها لأنهم يفكرون بلغة أخرى يكتبون وعيونهم على مصالح الغرب وإن كان فيها هدم لأوطاننا وإزالتنا من الوجود.
ثقافة المبغى التي يروجونها هي التي حولت قنواتنا الفضائية من بث أغان حماسية لذلك الطفل الثائر في فلسطين إلى بث فيديو كليب خليع لا يتناسب مع الظروف التي نعيشها والمآسي التي نتجرع مراراتها، ليس فقط لإفساد أخلاقنا وتغيير أنماط تفكيرنا، وإنما لإيهام الطفل حامل الحجر بأن أمته تخلت عنه أعطته ظهرها وها هي لاهية لا تفكر فيه ولا في مصيره ولا قضيته العادلة.
يقول سميح القاسم شاعر فلسطين الكبير أمهلوني قليلا حتى أعدل ميزان القوى بين قصيدتي وبين ترسانة إسرائيل، ويقول لسان حالهم: أمهلونا قليلا حتى نقضي على هذه الأمة ونجعلها تمارس جلد الذات حتى الموت.
ما أبعد الفارق بين التبر والغاز السام!
- آخر تحديث :
التعليقات