استنفر خطف الصحفيين الفرنسيين "كريستيان شينو" و"جورج مالبرينو"، همة هيئات وجماعات وشخصيات دينية وسياسية عربية، فنشطت التحركات وكثر الكلام والفتوى لتحريم قتلهما أو حتى إيذائهما.
ولكن خطف الصحفي الإيطالي "أنزو بالدوني" وقتله لم يثرْ رفضاً أو اعتراضاً من أي من هؤلاء. فهو، إذن، حلال أو على الأقل مقبول. أما إذا كان الخطف والقتل طعناً ورمياً بالرصاص في آن معاً، من نصيب 12 نيبالياً من أفقر مساكين الأرض، فالأمر لا يستحق الوقوف عنده أو تضييع وقت فيه.
ما هذا الذي يحدث، وكيف انحدرنا إلى هذه القاع السحيقة، وأي عقيدة بات هؤلاء المحسوبون على الإسلام يؤمنون بها، وأين موقع هذا الدين الحنيف الذي أنزله الله نوراً للبشرية وسط هذا الظلام الدامس الذي تتخبط فيه أمتنا؟
هذه، وغيرها كثير، أسئلة لابد أن يثيرها المشهد العربي الراهن الذي يتكون فيه موقف يمجد العنف المنفلت من أية قواعد أو معايير باعتباره رد الفعل الوحيد الممكن ضد ممارسات الهيمنة والاحتلال.
وفي ظل هذا الانفلات، نجد ازدواجاً مخجلاً في المعايير أظهرته التفاعلات التي أحدثها خطف الصحفيين الفرنسيين كأوضح ما يكون. فلم يكن خطف هذين الصحفيين مجرد حلقة في سلسلة متصلة من عمليات الخطف والذبح بالسيف وبث صور إطاحة الرقاب بكل همجيتها ووحشيتها ليراها العالم كله. فقد بدا كما لو أن الصحفيين الفرنسيين من طينة أخرى لأن دولتهم وقفت ضد الحرب على العراق، بالرغم من أن الصحفي الإيطالي اتخذ الموقف نفسه وكشف خلال عمله ممارسات سلبية للقوات الأميركية. وهنا اقترن ازدواج المعايير بجهل شامل سواء بمواقف الإيطالي المذبوح أو بأحكام الإسلام المظلوم أو بفداحة جريمة الخطف والقتل التي لم يعد لها وجود في عصرنا إلا في كولومبيا حيث ترتكب عصابات المخدرات والمهربون أحط الجرائم. كما تواكب مع خطف الصحفيين الفرنسيين حدث جلل آخر لم يلق اهتماماً عربياً يذكر، وهو قيام إرهابيين مجرمين باحتجاز مئات بينهم أطفال في مدرسة إعدادية في "أوسيتيا" مما أدى إلى مذبحة بشعة عند اقتحام القوات الخاصة الروسية للمدرسة.

وقد أظهر هذا الحادث مدى الأذى الذي يلحقه العنف بالإسلام وأهله، الذين ينساق قطاع يعتد به بينهم إلى قبول ممارسات يرفضها ويحرمها هذا الدين السمح. كان ذلك الحادث هو ثالث ثلاث عمليات عنف إجرامية خلال أسبوعين في أواخر أغسطس ومطلع سبتمبر 2004، الأمر الذي خلق حالة ذعر أدت إلى رواج كلمة جديدة دخلت القاموس الروسي حديثاً هي "شهيدكا" كمرادف -وللأسف الشديد- لكلمة إرهابي. نقلت وكالات أنباء في 8 سبتمبر الجاري أن كلمة "شهيدكا" أصبحت (أكثر الكلمات تردداً في الصحف الروسية وأحاديث الناس خلال الأسبوعين الأخيرين). وأوضح التقرير الذي بثته أن هذه الكلمة كانت قد ظهرت للمرة الأولى عام 2002 بعد حادث تفجير المسرح في موسكو، ولكنها انتشرت على نطاق واسع في الأيام الأخيرة. مثل هذا الضرر وأكثر، ألحقه بالإسلام والمسلمين قتل النيباليين المخطوفين في العراق. فقد عبّر الشعب النيبالي عن غضبه عبر استهداف كل مظاهر الإسلام في "كاتماندو"، من أكبر مساجد العاصمة إلى مكاتب وكالات توظيف عربية إلى مقري الخطوط الجوية السعودية والقطرية. وحتى السفارة المصرية لم تنجُ من الغضب. واضطر المسلمون في هذا البلد إلى أداء صلاة الجمعة 3 سبتمبر الجاري في منازلهم خوفاً من نزعة الانتقام التي استشرت في هذا البلد ضد كل من وما يمت بصلة للإسلام. فأي إيذاء، بل إهانة، للإسلام وقيمه من جراء أعمال العنف الهمجية التي تجد تبريراً في أوساط لا يستهان بها من الرأي العام العربي؟

فثمة اضطراب وارتباك شديدان في الموقف العربي تجاه العنف. وليس ازدواج المعايير إلا إحدى سمات هذا الارتباك وذلك الاضطراب. ويصل الازدواج إلى ذروته عندما نجد أن وصف عملية مسلحة بأنها استشهادية وأخرى بأنها "إرهابية" يكون مرتبطاً بالأهواء وليس بمعايير محددة ومنضبطة.

هذا الخلل البنائي في الموقف العربي السائد تجاه العنف نتج عن شيوع ثقافة تحفل بأي نوع من العنف ضد الآخر الأجنبي وخصوصاً عندما يكون من الأعداء الذين تسود العشوائية في تعريفهم كما في تحديد كثير من المفاهيم ذات الصلة بهذه الثقافة مثل الجهاد والاستشهاد.

إنها ثقافة معادية للإسلام وليست فقط خارجة عليه، لأنها ثقافة عنف وموت وكراهية وانتقام أعمى، وبغضٍ للإنسان وقمع لحقوق الفرد والمجتمع. هذه الثقافة التي تشجع "الإرهاب" ظلت تتنامى حتى بلغت الذروة في مطلع القرن الحادي والعشرين لأسباب ربما يكون أهمها تراكم فشل معظم الدول العربية - وخصوصاً الدول التي تعتبر رئيسية في المنطقة- في كل شيء تقريباً وفي مختلف القضايا الداخلية والخارجية. وقد يقول قائل، هنا، إن هذه الدول، أو بعضها على الأقل، حققت نجاحات في بعض المجالات. وهذا قول صحيح، ولكن المهم هو أن أياً من هذه الدول لم يحقق نجاحاً كاملاً في أي شيء. فلم يكن الفشل جامعاً مانعاً، وإنما حدث بدرجات متفاوتة في كل شيء. فربما لو كنا حققنا نجاحاً كاملاً في أمر واحد من أمورنا، لما وصل الشعور العام بالفشل إلى المستوى الذي خلق حالة سلبية في المجتمعات العربية من سماتها اليأس والعجز والخوف وفقدان الثقة في النفس.

ومع انتشار تفسير تآمري لهذه الحالة يردها بشكل حصري إلى أننا مستهدفون من قوى خارجية شيطانية تعمل لإضعافنا وتتآمر علينا وتسعى إلى تدمير هويتنا، يصبح أي عمل ضد هذه القوى وحتى غيرها موضع ترحيب مهما تكن همجيته وبغض النظر عن نتائجه الحقيقية وهل يفيدنا في شيء أم يلحق بنا المزيد من الأضرار. وهكذا فمع تراكم الفشل والبحث المستمر عن "شماعة" نعلقه عليها، تنامى ميل إلى الانتقام الأعمى أنتج خطاباً عنيفاً لا يعرف سوى الصراخ والزعيق والتحريض أو ما أسماه الكاتب اللبناني سمير عطا الله رتابة الهمجية التي تسوق نفسها كحالة من حالات النضال الوطني. وهذه الثقافة ليست خارجة على الإسلام ومعادية له فقط بل هي نقيض أيضاً لقيم عربية أصيلة كنا نفخر بها في أزمان سابقة مثل الشهامة والمروءة ونجدة المحتاج.

لقد أدى تراكم الفشل والهزائم على كل صعيد إلى حالة مرضية أخذت تتفاقم حتى أصابت روح الأمة. ولهذه الحالة المرضية المتفاقمة خلفية تاريخية أطول زمناً، فوراءها تاريخ طويل من الجمود يعود إلى القرن الحادي عشر وتحديداً منذ أن اعتلى الخليفة العباسي القادر بالله المنبر وأحلّ دم كل من يقول بأفكار المعتزلة. كانت هذه نقطة فاصلة تاريخياً تراكم بعدها جمود تاريخي هائل جعل الأرض العربية مهيأة الآن، بعد تراكم الفشل المعاصر، لثقافة تنتج موقفاً عدمياً يناقض أية عقيدة نبيلة وليس فقط الإسلام، ومؤداه إما النصر التام أو الموت الزؤام. وما دمنا غير قادرين على تحقيق النصر الفوري فليس أمامنا إلا الموت، وما دمنا ميتين فلنقتل من تصل أيدينا إليهم قبل أن نموت.

أما السعي إلى تحقيق النصر المفقود الآن عبر بناء مقومات القوة ومعالجة عناصر الضعف فليس وارداً في ثقافة العنف والموت التي تسود تدريجياً أنحاء العالم العربي، بالرغم من أن هذا هو سلوك الإنسان العاقل والأمة السوية. إنها ثقافة لا مكان للعقل فيها، فالشاب الذي يذهب لتفجير نفسه لا يعرف أن عقله يمكن أن يكون سلاحاً أكثر قوة وفاعلية ومشروعية من جسده الذي يحوله إلى قنبلة. إنه لا يفهم معنى للقوة إلا العنف والقتل والفتك، ولا يفهم أن هذا يرتد ضد قضية أمته، ولا يعرف أن الإسلام الحقيقي يحث على الرحمة والغفران لأنه لا علاقة له بهذا الدين الحنيف. فهو لا يدرك أن تنمية عقله لتحقيق إنجاز علمي أو الوصول إلى اختراع جديد إنما يضيف إلى قوة الأمة، بينما تدريب جسده ليتحول قنبلة يزيدها ضعفاً على ضعف. إنه لا يفكر إلا في الثأر أو الانتقام اللحظي العابر. وما أتعس أمة لا يجد عدد متزايد من أبنائها سبيلاً إلى فخر قومي إلا عبر عنف عشوائي أعمى وذبح وجز رؤوس أمام الكاميرات.

وما أسوأ حظ أمة يحل بعض علمائها عمليات القتل الانتحارية بدم بارد في أي مكان. فهذا أحدهم دعا إلى تعميمها عبر حديثه عنها (في فلسطين والشيشان وغيرهما من بلاد المسلمين)، ولم يكتف بتحليلها بل أفتى بأنها "من أنجح الوسائل الجهادية ومن الوسائل الفعالة ضد أعداء هذا الدين لما لها من النكاية وإيقاع الإصابات بهم من قتل أو جرح ولما فيها من بث الرعب والهلع فيهم، ولما فيها من تجرئة المسلمين عليهم وتقوية قلوبهم وكسر قلوب الأعداء والإثخان فيهم، ولما فيها من التنكيل والإغاظة والتوهين لأعداء المسلمين وغير ذلك من المصالح الجهادية".

وهذا غيض من فيض في هذه الفتوى الرهيبة التي وضعها صاحبها على شبكة "الإنترنت"، وأخذ يبحث عن إسناد لها عبر اجتزاء النصوص وتفريغها من محتواها والتلاعب بمعانيها بدعوى أن عمليات التفجير الانتحارية "هي من النوازل المعاصرة التي لم تكن معروفة في السابق بنفس طريقتها اليوم"!

ومع هذا كله، وبالرغم من حجم التخلف الذي لم يرسف العرب في مثله في أي عصر مضى، يظل في الإمكان الخروج من هذه الحالة المزرية. تستطيع الدول العربية أن تعيد صياغة سياساتها العامة للتركيز على جانب محدد يمكن تحقيق نجاح فيه لتغيير المزاج العام المصبوغ بسوداوية الفشل المتراكم. ويستطيع المثقفون الإسلاميون المستنيرون حقاً أن يعملوا لإنقاذ الإسلام من العبث المتزايد به عبر الفصل بين ما هو دين وما هو تراث يحتاج إلى فرز جديد، وإعادة الاعتبار للعقل الذي يضمر يوماً بعد يوم في العالم العربي.