طوال فترة التورط الأميركي الدموي في الحرب الفيتنامية، كان خبراء مكافحة المقاومة المسلحة الغربيون، على علم بأن هدف "الفيت كونج" والفيتناميين الشماليين، لم يكن هدفاً آخر سوى كونه سياسياً، يرمي لإقامة نظام شيوعي في "سايجون". كما كانوا على علم بأن العمل العسكري، لم يكن أكثر من مجرد وسيلة لتحقيق ذلك الهدف. فعلى سبيل المثال، لم تكن للسفارة الأميركية في "سايجون"، أهمية عسكرية تذكر بالنسبة لـ"هانوي"، إلا أنها كانت ذات قيمة رمزية كبيرة هناك. لذا فإن ذلك الهجوم الباهظ التكلفة، الذي شن في عام 1968 من قبل "الفيت كونج" و"تيت"، كان يعني ضربة سياسية موجعة، قـُصد منها إحداث صدمة لعامة الجمهور الأميركي، وتقويض أي تأييد شعبي للحرب الأميركية على فيتنام. والشيء نفسه يفعله "إرهابيو" اليوم. فما الهجمات الانتحارية اليائسة والشاحنات الملغومة التي تقتحم المباني والمواقع والمنشآت، سوى أفعال يقوم بها أفراد تدفعهم نيران الكراهية والحقد والرغبة في سفك الدماء. غير أنهم أفراد ينفذون ما ينفذون، بصفتهم مجرد تروس وأدوات بيد قادة "إرهابيين" أعلى شأناً، لهم ما لهم من أجندة سياسية خاصة.

وبحسب المنطق الذي يقوم عليه "الإرهاب" في روسيا، فإن صدمة الشعب الروسي ستكون كبيرة صاعقة جداً، إزاء ما حدث في مدرسة "بيسلان" مؤخراً، إلى درجة أنها ستكون كفيلة بإرغام الروس على الانسحاب من الشيشان. وبالمنطق ذاته، فإنه ما على المقاتل "الإرهابي"، إلا أن يردي أكبر عدد ممكن من الضحايا في العاصمة الأسبانية مدريد، فيكون بذلك قد اختصر الطريق للإطاحة بنظام أسباني، زج بنفسه في الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية على "الإرهاب". أما في العراق، فما عليك إلا قتل أكثر ما تستطيع، وجز رؤوس العراقيين والأجانب على حد سواء، إذ ربما تدفع مثل هذه الأفعال قوات التحالف للانسحاب من العراق، وتركه لقمة سائغة في فم "الإرهابيين" الذين يحتقرون الديمقراطية.

ذاك عينه ما حدث خلال الأسبوع الجاري في إندونيسيا. فقد كان ذلك "الإرهابي" الذي نفذ الهجوم على السفارة الأسترالية في العاصمة "جاكارتا"، مخلباً بيد خلية "إرهابية"، لها أجندتها السياسية الخاصة. فالمعروف عن أستراليا، أنها من أكثر الدول صلابة في دعمها للحرب الأميركية على العراق. ويواجه رئيس وزرائها المتشدد في دعمه لتلك الحرب، معركة انتخابية حامية في التاسع من أكتوبر المقبل، مع خصومه ومنافسيه من حزب العمل، ممن يشنون حملة انتقادات واسعة ضد إرسال الجنود الأستراليين إلى العراق. وعلى الرغم من أن المواطنين الأستراليين، لم يكونوا بين ضحايا ذلك الهجوم الذي وقع على السفارة- إذ اقتصر ضحاياه على المواطنين الإندونيسيين وحدهم- إلا أن الهجوم بحد ذاته، يمثل رسالة سياسية بالغة الدموية والعنف، إلى الناخبين الأستراليين.

ثم إنه لم يتم استهداف السفارة الأسترالية في سنغافورة أو مانيلا، إنما استهدفت تلك التي في إندونيسيا. ولذلك الاختيار أهميته ودلالته، لكونه يعكس هندسة سياسية دقيقة ومحكمة لخططه. فميزة إندونيسيا- مثلها في ذلك مثل دول أخرى كباكستان وتركيا- أنها دولة إسلامية، غير أنها ليست عربية. من حيث الإحصاءات السكانية، فالمعروف عن المسلمين، أنهم يشكلون أقل من خمس سكان العالم. هذا وتمثل إندونيسيا أكبر دولة إسلامية في العالم، بحكم غالبية المسلمين فيها بين سكانها البالغ عددهم 216 مليون نسمة. كما تتسم هذه الدولة، بأن تدين المسلمين فيها وفهمهم للإسلام، أقل تشدداُ وعصبية من ذلك المنظور الإسلامي الذي يسود أقطار العالم العربي.

وميزة الاعتدال هذه، هي التي تقض مضاجع الأقلية المتطرفة هناك. ويسعى الجناح "الإرهابي" لهذا التيار، إلى زعزعة استقرار الحكومة الإندونيسية، وعكس التيار العام المتجه صوب التطور الديمقراطي هناك. لذا فإنه لم يكن من قبيل المصادفة، أن يقع الهجوم الأخير، قبل أحد عشر يوماً فحسب، من موعد أول انتخابات حرة مباشرة، ستجرى في إندونيسيا بتاريخ 20 من سبتمبر الجاري. وعلى رغم أن الناخبين الإندونيسيين، قد سئموا المحاولات والجهود المستمرة التي تبذلها الأقلية الإسلامية المتطرفة، في سبيل اكتساب شرعيتها السياسية، إلا أن هذه الأخيرة- ممثلة في تيار الجماعة الإسلامية التي تشير إليها أصابع الاتهام في أحداث تفجيرات السفارة الأسترالية الأخيرة- لا تكف عن إثارة نوع من الزخم "الإرهابي" هناك. هذا وتنسجم أهداف وبرامج هذه الجماعة، مع الأهداف المعلنة من قبل تنظيم "القاعدة"، باعتباره العدو الرئيسي للولايات المتحدة الأميركية في العالمين الإسلامي والعربي. وتتلخص تلك الأهداف، في الحيلولة دون تحول أية دولة عربية أو إسلامية نحو الديمقراطية.