تجنب المجلس الوزاري لوزراء الخارجية العرب الأزمة الحادة في العلاقات العربية - العربية لدى بحثه مسألة القرار الدولي 1559. الدول العربية التي عارضت القرار وجدت في قرار التضامن مع لبنان ما يعضد موقفها، بينما وجدت الدول التي رفضت معارضته تجنب التنديد المباشر به ما يكفيها. هذا لا يعني ان الغمامة قد اختفت من الفضاء العربي.
فالقرارات التي قبل بها الجميع هي اقرب الى ان تكون هدنة مؤقتة بانتظار تقرير الأمين العام لهيئة الامم المتحدة في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، فماذا لو جاء مضمون التقرير سلبيا بحق سوريا؟ وماذا لو أصدر مجلس الامن، بمبادرة امريكية - فرنسية مشتركة، قراراً بفرض العقوبات على سوريا لعدم امتثالها للقرار الدولي؟
بعض الدول العربية بدت كأنها زكت سلفا هذا الاحتمال عندما انتقدت “الانتقائية” في التعامل مع المقررات الدولية، وبررت هذا الانتقاد بقولها اما نقبل القرارات الدولية كلها ونتسلح بما يفيد منها قضايانا العادلة مثل قضية فلسطين، وإما نرفض الامتثال لبعضها كالقرار 1559 فلا يعود بإمكاننا الافادة من القرارات الدولية التي تتجاوب مع قضايانا.
هذا التبرير لعدم التجاوب الكامل مع سوريا ولبنان يسقط من الدبلوماسية العربية الحق في معارضة قرار مجلس الامن، هذا مع العلم ان المعارضة غير الرفض. بل انه يسقط حق الدول الاعضاء كافة في هيئة الامم المتحدة في مطالبة مجلس الامن في مراجعة موقفه تجاه قضية من القضايا، وفي استخدام جميع السبل المشروعة في اطار المؤسسات الدولية الشرعية من اجل حمله على تعديل قراراته. هذا إذا اعتبرنا في الاساس ان هذه القرارات خاطئة.
هذا الموقف يحول مجلس الامن الى هيئة تشبه السلطات العليا في الدول الشمولية.
فعندما تصدر هذه السلطات قراراتها يصمت الجميع وينفذونها. فإذا كانوا اساسا من معارضي القرارات عليهم الكف عن التعبير العلني عن موقفهم هذا والتظاهر كأنهم من مؤيديها. انه يحول مجلس الامن الى ما يشبه السلطة المطلقة في نظام دولي يضم دولا مستقلة وليس محافظات او ولايات تابعة لدولة مركزية او فيدرالية أو حتى كيان كونفدرالي.
فضلا عما تقدم فإنه من المرجح ان ترى كل من واشنطن وباريس في مثل هذا الموقف تشجيعاً لهما على التصعيد. ان المطالبة بالابتعاد عن الانتقائية تعني إبداء الاستعداد، سلفا، للامتثال للقرارات الدولية بصرف النظر عن مضمونها وعن صوابها، وهو يعني ان الدول العربية سوف تنقسم، مرة اخرى، الى معسكرين متناحرين: فريق يؤيد القرارات الدولية، وآخر يعارضها. هذا يخدم واشنطن على الاقل في الظروف الراهنة. فإدارة بوش ليست من المعجبين بالشخصية العربية الجماعية، والانقسام العربي يسهل استبدال المؤسسات العربية الاقليمية بالشرق الاوسط الكبير الذي تتوق إليه ادارة الرئيس الامريكي.
اذا انقسمت الدول العربية يكون العمل الجماعي العربي ومؤسساته وتجلياته مثل مؤتمر القمة العربية وجامعة الدول العربية ومنظماتها المختصة في مقدمة ضحايا الانقسام.
السقوط قد لا يكون مدوياً الى درجة “موت الجامعة” ومعها النظام الاقليمي العربي كما يشتهي كثيرون في المنطقة وخارجها. ولكنه قد يكون عنيفا الى درجة إلحاق اضرار كبرى بالجسم العربي وتعطيله لسنوات طويلة قبل ان يتحرك من جديد كما حدث في التسعينات.
يظهر هذا المسار المؤسف كأنه قدر الحياة السياسية العربية الجماعية. فهنا قد يضرب المؤمنون كفا بكف ويقولون: ما العمل؟ ان الضغوط على المنطقة شديدة وهي لا تترك فسحة او فرصة للعرب لكي ينظموا بيتهم على الوجه الذي يشتهونه او يفيدهم. وفي ذلك الكثير من الصواب، ولكنه لا يعني اننا غير قادرين على حماية النظام الاقليمي العربي من الاهتزاز وتطويره وتمتينه حتى في ظل ظروف دولية وإقليمية صعبة ومعقدة.
لقد صدرت عن القمم العربية منذ منتصف التسعينات رزمة من المقررات والتوجيهات ما يمكن الارتكاز عليه لتطوير النظام الاقليمي العربي وتعزيزه. من اهم المقررات هو ذاك المتعلق بإنشاء منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى (غافتا). بحسب البرنامج الزمني لإنجاز المنطقة، فإنه من المفروض ان تعلن ولادتها خلال العام المقبل على ابعد تعديل. إلا ان هذا المشروع كما جاء على لسان رفيق الحريري، رئيس الحكومة اللبنانية، خلال زيارته الاخيرة الى القاهرة، يعاني من مشكلات كثيرة في التنفيذ راجعة الى العراقيل غير الجمركية التي توضع في وجهه.
اذا انعقدت قمة الجزائر وتمكنت من تجاوز المطب اللبناني ونظرت في مقترحات الامانة العامة بصدد تطوير العمل العربي المشترك، نكون قد خطونا خطوات الى الامام. ولكن الى جانب ذلك فإنه من الضروري ان تضع الامانة العامة مسألة تنفيذ “غافتا” على جدول اعمال القادة العرب وان تبذل، حتى تاريخ اجتماعهم، جهدا مركزا من اجل تجاوز العقبات التي تحول دون تحرير التجارة البينية العربية. ان هذه العقبات ليست ادارية او فنية بحتة، بل انها من نتاج بيئات سياسية. وحتى ولو لم تكن كذلك، اي حتى ولو كانت من صنع الادارات العربية وحدها ومن آثار التخلف والعجز والاهمال، فإن التغلب عليها يتطلب قرارات وملاحقة ومتابعة من قبل القادة العرب. ان تحرير التجارة البينية هو مثل قرار الحرب والسلم: اكثر جدية من ان يترك للجنرالات وحدهم. انه عادة من صنع القيادات السياسية، فهي التي تكسبه مشروعية كاملة، وهي التي توفر له الطاقات الكافية لإحراز النتائج الحاسمة، وهي التي تملك تحديد الاهداف البعيدة المدى والقدرة على ازاحة العراقيل المتراكمة التي تقف في وجهه.
التعليقات