ما هي علاقة قضية دارفور في السودان بالانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة؟. عندما أحصيت أصوات المقترعين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في عام 2000، أي قبل أربع سنوات، ذهل جورج بوش (مع أركان حملته الانتخابية) عندما تبين له ان 96 في المئة من الأميركيين السود الذين يتحدرون من أصول افريقية صوتوا ضده.
وعشية الانتخابات التي ستجري في مطلع تشرين الثاني المقبل، فان الرئيس بوش (مع اركان حملته) يركز اهتمامه على مجموعتين اساسيتين من الناخبين. تتألف المجموعة الأولى من اليمين الديني الانجيلي المتطرف الذي ينتمي اليه الرئيس بوش شخصياً. وتمثل هذه المجموعة نحو 18 في المئة من أصوات الناخبين. وقد شكلت في الانتخابات السابقة 40 في المئة من الأصوات التي حملت بوش الى البيت الأبيض.
اما المجموعة الثانية فتتألف من الأميركيين السود، الذين عانوا على مدى عقود طويلة الاضطهاد والتمييز العنصري على يد جماعات "الواسب" اي الانجيليين البيض الانكلو ـ ساكسون، خاصة في الولايات الأميركية الجنوبية التي توصف بـ"الزنار الانجيلي".
ولكن اذا كان من الصعب الجمع بين المجموعتين لمصلحة مرشح رئاسي محسوب على المجموعة الأولى، فانه قد لا يكون مستحيلاً. ولعل من اجراءات التقرب ـ او حتى التزلف ـ الى المجموعة الأولى، تتمثل في محاولة اعطاء ادارة الرئيس بوش صفة المدافع عن حقوق الافارقة وخاصة في السودان!!. من هنا جاء اتهام وزير الخارجية كولن باول لحكومة الخرطوم بانها مسؤولة عن عمليات "التطهير العرقي والابادة الجماعية" في دارفور، وهو اتهام تتفرد به الولايات المتحدة دون غيرها من دول العالم، كما تفردت قبل عامين تقريباً باتهام العراق بامتلاك اسلحة دمار شامل تبين بعد الحرب المدمرة عليه انه لم يكن يملك شيئاً منها.
لقد كان اتهام العراق مفبركاً لتبرير شن الحرب عليه التي كانت مقررة حتى قبل وقوع جريمة الحادي عشر من أيلول 2001، وقد أصرت الولايات المتحدة على الاتهام واختلقت الأدلة التي قدمها كولن باول أمام مجلس الأمن الدولي والتي ثبت أنها كانت كاذبة تماماً وباعتراف الولايات المتحدة نفسها.
والآن يتكرر السيناريو نفسه. فالولايات المتحدة، وعلى لسان الوزير باول نفسه ايضاً، تتهم السودان بارتكاب جرائم عنصرية في دارفور، ليس حباً بالقبائل السودانية الافريقية هناك، انما استدراراً لعطف الناخب الأميركي الذي يتحدر من أصول افريقية.
لا يعني ذلك انه لا مشكلة في دارفور، او ان المشكلة مختلفة، كما لا يعني انه لا توجد معاناة انسانية. فالمشكلة قائمة بأبعادها القبلية الدموية وبنتائجها الانسانية المفجعة. غير ان اعطاء هذه المشكلة ابعاداً ليست لها، من أجل توظيفها سياسياً وانتخابياً يزيدها تعقيداً، ويعرقل اجراءات معالجتها، ويحولها الى ورقة استثمار في سوق الانتخابات الرئاسية الأميركية.
لقد سبق أن وجهت اصابع الاتهام الى الولايات المتحدة بتجاهل المذابح الجماعية التي جرت في رواندا والتي ذهب ضحيتها نحو المليون قتيل. ذلك انه في الوقت الذي كانت المذابح تتوالى هناك، لم تحرك واشنطن ساكناً، لا مباشرة ولا عبر حلف شمال الأطلسي ولا حتى عبر الأمم المتحدة. وقد أدى ذلك التجاهل الى ادانتها سياسياً واخلاقياً بالتقصير، وكأن الافارقة السود هم دون البشر لا يستحقون الاهتمام والتدخل لوضع حد للمجازر الدموية المفجعة.
واليوم تحاول الادارة الأميركية اعادة تلميع صورتها من خلال مشكلة دارفور.. بما يصور الرئيس جورج بوش رجلاً لا عنصرياً متعاطفاً مع الأفارقة ومدافعاً عن حقوقهم ومتصدياً للدولة العربية وللقبائل العربية التي تضطهدهم؟.. وكأن العرب أصبحوا "مكسِرَ عصا" في كل مرة، وفي كل موقع، تواجه فيه ادارة أميركية أزمة من نوع ما، او تحتاج فيه الى مشجب تعلق عليه آثام سياستها.
لقد تعود العالم العربي عشية كل انتخابات رئاسية أميركية ان يدفع ثمن الاستغلال الاسرائيلي اللامحدود لهذه الانتخابات على قاعدة تنافس المرشحين الجمهوري والديموقراطي على أصوات وأموال ونفوذ يهود الولايات المتحدة.
غير ان الجديد في الأمر هو ان ثمن الاستغلال تضخم الآن بحيث وصل الى دارفور!!.
ومن يدري بعد دارفور الى أين؟.