على الرغم من انني لا احب كلمة اسمها «التعصب«.. لأنه يتنافى مع رحابة الفكر وسماحة الحوار، فإنني اضع نفسي في خندق «المتعصبين« للغة العربية الفصحى.. وليس ذلك رفضا للهجات العامية او انكارا لقيمتها ودورها.. ولكن لأن اللغة الفصحى هي آخر ما بقي من اطلال هذه الامة ومن بقايا وجودها الثقافي.. وفي اليوم الذي يتكسر فيه هذا الحصن سوف نعلنها بأعلى اصواتنا «قل على العرب السلام«..
ان اللغة العربية هي السياج الذي ما زال يجمعنا على مائدة كتاب جاد وحوار مثمر وقصيدة جميلة ومقال ممتع.. وفي اليوم الذي نتنكر فيه لهذا التراث العظيم سيكون ذلك بداية مرحلة جديدة من مراحل التحلل الثقافي، بل التلاشي على كل المستويات..
ولا يستطيع احد ان ينكر اهمية العامية المصرية التي اجتاحت العالم العربي وجمعت بين شعوبه من خلال الغناء الجميل والمسرح الهادف والسينما الرامية.. لا يستطيع احد ان يتجاهل او يرفض النماذج الرفيعة في اللهجة العامية.. فما زلنا نعيش على صدى اغنيات رامي التي شدت بها قمة الغناء العربي وهي صفحة من اروع صفحات التلاقي بين الكلمة الجميلة واللحن الساحر والصوت العبقري. لا استطيع ان انسى كلمات بيرم التونسي ومأمون الشناوي ومرسي جميل عزيز وحسين السيد وصلاح جاهين وعبدالوهاب محمد وفؤاد حداد والابنودي.. كل هؤلاء وغيرهم صاغوا وجدان هذه الامة بالكلمة الجميلة كما صاغتها اشعار شوقي وحافظ ومحمود حسن اسماعيل وصلاح عبدالصبور ونزار قباني وجبران وايليا ابو ماضي وناجي وعلي محمود طه والشابي.. وغيرهم..
ولن ننسى ايضا العامية الجميلة في المسرحيات وافلام السينما وحوارات الكتاب والمبدعين.. لا نستطيع ابدا ان نسقط العامية كركن من اركان لغتنا حتى وان دافعنا بقوة واصرار عن اللغة العربية الفصحي..
والغريب اننا الآن نسمع قصصا عجيبة عن اتجاه المؤسسات التعليمية في مصر الى تدريس اللهجة العامية للتلاميذ في المدارس.. ولا ادري ما الهدف من هذا التوجه المريب والغريب.. وماذا يعني ذلك؟! هل سيتم تدريس المناهج الدراسية بالعامية؟!.. بمعنى ان يكتب المؤلفون كتب التاريخ او الجغرافيا او الفلسفة وعلم النفس باللهجة العامية؟!.. ام ان ذلك يعني تدريس نماذج من اللهجة العامية في الاغاني والازجال.. وعلى اي اساس سيكون ذلك؟!.. والسؤال الاهم: لماذا يحدث ذلك الآن؟!.. وهل يدخل في نطاق سلسلة التطوير التي يتحدث عنها البعض مثل تطوير الخطاب الثقافي.. والخطاب الديني.. واستبدال مادة الدين في المدارس بمادة اخرى تسمى الاخلاق.. ولماذا كل هذه السلسلة من الاجراءات المتشابهة في الهدف والغاية؟!..
بداية.. انا لا اتصور تدريس المناهج التعليمية باللهجة العامية.. وليس باللغة العامية كما يشيع البعض.. فليس هناك ما يسمى اللغة العامية.. لأن اللغة العربية لغة واحدة.. واللهجات العامية قضية اخرى.. فكيف يمكن للطالب ان يقرأ الدروس بالعامية.. ولماذا هذا الفصل التعسفي الجائر بين الطلبة ولغتهم الفصحى؟.. واذا كان الطالب سيدرس بالعامية فمتي سيتعلم الفصحى؟!..
واذا كان الهدف هو تدريس نماذج في الغناء او المسرح.. او السينما.. فما هذه النماذج؟!.. وهل يدرس الطالب اغنيات رامي؟!.. ام اغنيات الفيديو كليب العارية جسدا وكلاما؟!ا.. وهل يمكن ان يأتي يوم ونقرأ سؤالا في الامتحان عن اغنية من اغاني المطربات العاريات اللاتي يعف القلم عن ذكر اسمائهن؟!..
اما اغرب الاشياء الآن فهو ذلك الانحطاط الرهيب في مستوى اللهجة العامية في الغناء والسينما والمسرح، حتى مستوى الحوار بين الناس في الشارع وصل الى حالة مخيفة من التدني والاسفاف.. وفي كثير من الصحف الآن مقالات وتحقيقات باللهجة العامية.. وهناك قصص وروايات كاملة باللهجة العامية.. وهناك ايضا المستوى الهابط في الحوار في السينما والمسرح.. فهل وصل بنا الحال الى السعي لتدريس ذلك كله في مدارسنا؟! على الرغم من انهم يتعرضون كل يوم لعشرات الدروس من هذه اللغة الهابطة في التلفزيون والشارع والمدرسة والصحيفة.. حتى ائمة المساجد يستخدمون الاساليب نفسها..ان ذلك يعني انقطاع كل وسائل التواصل بين الاجيال الجديدة ولغتها العربية الفصحى.. وسوف يجيء يوم لا تجد فيه شخصا واحدا يستطيع ان يقيم جملة عربية سليمة..
ان ذلك يعني ايضا تشجيعا صارخا لحالة التردي التي وصلت اليها لغة الحوار في الشارع والسينما والمسرح واغاني الفيديو كليب.. وفي الاعوام الاخيرة ظهرت عشرات الاغاني التي انتشرت كالسموم بين اطفالنا.. وهناك مجموعة من المؤلفين المتربصين بأذواق هذه الامة ينتظرون لحظة النهاية.. نهاية كل كلمة جميلة.. وكل حوار رفيع..
ان ذلك يعني ان تقوم كل عاصمة عربية بتدريس مناهجها للتلاميذ باللهجة العامية.. وهنا سوف تظهر في العالم العربي اجيال لا تعرف من اللغة شيئا غير تلك اللهجات التي لا يفهمها احد غير اصحابها.. وبذلك تنقطع كل الجسور.. وتنتهي كل الثوابت..
ان ذلك يعني ان تدخل اللغة العربية الفصحى متاحف التاريخ مثل كل اللغات المنقرضة وتتحول الدول العربية الى جزر صغيرة تتناثر في الفضاء الفسيح بلا حوار او فهم او تواصل..
ان ذلك يعني ان التلاميذ الذين سيتخرجون في المدارس والجامعات بهذه الطريقة وهذه الاساليب سوف يكتبون كل شيء باللهجة التي تعلموا بها.. وهنا ستجد كل المبدعين الجدد لا يعرفون شيئا من اللغة الفصحى.. فتنتهي فنون عريقة مثل الشعر.. وتجد كل اجهزة الاعلام وهي تتحدث لهجات لا يفهمها احد..
وهنا سوف نجد امامنا كيانا ضخما ينهار في كل شيء اسمه «الثقافة العربية« فلا توجد ثقافة عربية دون اللغة.. وفي الوقت الذي تتحلل فيه عناصر اللغة وتفقد مقوماتها سوف تسقط معها ثقافتنا بكل ثوابتها وجذورها..
فهل سيأتي يوم يطلب فيه المدرس من التلميذ ان يستبدل موضوع الانشاء من اللغة الفصحى ليكتبه باللهجة العامية.. وهل سيدرس التلاميذ في مدارسنا حصص النصوص والبلاغة والادب باللهجة العامية؟.. وهل يأتي سؤال في اغنية «احنا اللي دهنا الهوا دوكو« بدلا من قصيدة حافظ ابراهيم «وقف الخلق ينظرون جميعا«.. وهل نستبدل «الاطلال« بـ«كمننا«.. ونقرأ نشرة الاخبار بالعامية.. ونسمع خطب الجمعة على منابرنا كما نسمع الحوار في وكالة البلح..
اذا حدث ذلك - كما يتردد الآن - فسوف يترك التلاميذ كل ما له علاقة باللغة الفصحى، سواء في كتب التاريخ او المواد الدراسية الاخرى.. وهذا يعني افسادا كاملا للعملية التعليمية ومستقبل الاجيال المقبلة..
اننا لا نريد طرح افكار غريبة تحت دعاوى التطوير، ويجب ان يخضع كل شيء للدراسة قبل ان يجرفنا الطوفان..
ولهذا؛ فإن الفرق كبير جدا بين دعوات تسعى الى تطوير اللغة العربية الفصحى، ودعوات اخرى تسعي الى هدمها.. ان تبسيط اللغة الفصحى دعوة مشروعة، ولكن تدريس المناهج بالعامية دعوة خبيثة وتنقصها الشفافية.. ان الاخطر من ذلك كله؛ ان نجد انفسنا امام الامر الواقع، حيث يتركنا المسؤولون نقول ما نريد.. ثم بعد ذلك يفعلون ما يريدون.. ان اي عبث في اللغة تحت شعار «التطوير« يمكن ان يؤدي الى كارثة، خاصة اذا كانت النيات غير مخلصة والاهداف غير امينة..
ان السنوات الاولى في مراحل التعليم هي التي توجد تلك العلاقة العميقة بين الاجيال الجديدة ولغتها العربية، واذا ضاعت هذه المراحل في عمليات تجريب غير واعية فقد تصل بنا الى اجيال لا علاقة لها باللغة العربية من قريب او بعيد.. واذا اردت ان تعرف مستوى اللغة العربية بين الاجيال الجديدة فحاول ان تسمع لغة الحوار بينهم، لأنهم يأكلون نصف الكلمات ويتحدثون بسرعة غريبة، فلا تفهم منهم شيئا..
من وقت لآخر نشاهد بالونة كبيرة تنطلق في السماء..تحت شعارات التطوير، والمعاصرة، والحداثة.. وليس بيننا من يرفض ذلك كله، لأننا لا نريد ان نعيش خارج الزمن.. ولكن يجب ان نعيش هذا الزمن دون ان نفرط في هويتنا.. وهل هناك كارثة اكبر من ان نفرط في اهم ثوابتنا.. وهي اللغة؟.
وانا على يقين من ان وزير التربية والتعليم د. احمد جمال الدين، وهو صديق عزيز، لا يمكن ان يسمح بطرح مثل هذه المهاترات الغريبة في عمليات التطوير، سواء كانت تحت شعار التعليم او الثقافة او اللغة العربية.. لا احد منا يرفض السعي الى تطوير مناهج اللغة العربية واساليب تدريسها.. ولكن ان نستبدل العامية بها فهذه جناية كبرى.. ولا ادري ما سبب اطلاق كل هذه الزوابع؟!..
مادة الاخلاق بدلا من مادة الدين..
توحيد الاذان في كل ارجاء المحروسة صوتا وتوقيتا..
الاتجاه الى استخدام اللغة العامية في المدارس..
هجمات ضارية على اللغة العربية الفصحى..
ماذا تريدون لنا.. سؤال يبحث عن اجابة..؟!..