في واشنطن، وزير الخارجية الأميركي كولن باول يعلن: "أن أوساط المخابرات كانت تعلم بأن المعلومات عن الأسلحة في العراق كانت خاطئة ". ويقول أمام لجنة الشؤون الحكومية في الكونغرس:"إن المعلومات التي أدليت بها أمام مجلس الأمن حول أسلحة الدمار الشامل في العراق كانت خاطئة. ولو كنتُ أعلم ذلك من قبل لما اتخذت ربما توصية بشن الحرب". وفي باريس، رئيس الجمهورية الفرنسية جاك شيراك يقول:"لقد فتحت أبواب جهنم في العراق ولا يمكن إغلاقها".
وفي تركيا، وزارة الخارجية تستدعي السفير الأميركي وتعلن:"أنه لا تعامل مع أميركا إذا لم توقف عدوانها في تلعفر". وفي إسبانيا رئيس الحكومة يدعو الدول المشاركة في القوات المتعددة الجنسيات في العراق "إلى أن تحذو حذو بلاده وتسحب قواتها. تلك هي نقطة الانطلاق لإحلال السلام هناك"!! والأميركيون يطلبون التدقيق في هذا التصريح.
وفي بغداد رئيس الحكومة المؤقتة إياد علاوي يؤكد أن أحد أسباب ما يجري هو الخطأ الذي ارتكبته قوات الاحتلال بحل الجيش وتفكيك المؤسسات. ويخوض حواراً مع رؤساء عشائر ووجهاء في المدن والقرى لاستمالتهم ومحاولة استقطابهم في وقت يسقط فيه عشرات القتلى ومئات الجرحى يومياً والحرب تعم كل المناطق العراقية، مما اضطر وزير الخارجية الأميركي كولن باول إلى الاعتراف بأن "ثورة مسلحة تستعر كل يوم"!! وبالتالي لسنا أمام جماعات زرقاوي أو عصابات أو مجموعات إرهابية كما كانوا يقولون، بل رد الفعل الأميركي على هذه الثورة يأخذ طابع الإبادة الجماعية. ولذلك يشعر الأميركيون وحلفاؤهم العراقيون بأنهم في مأزق حقيقي سيطول أمده. وقد عبر علاوي عن ذلك بقوله إذا لم يتمكن أهل الفلوجة من المشاركة في الانتخابات المقبلة في كانون الثاني فيمكننا ضمان حقهم في الانتخاب لاحقاً!! يعني أنه إذا جرت الانتخابات في تلك الفترة - إذا- فإن الفلوجة قد لا تكون مشمولة بها وذلك في اعتراف واضح بعمق المشكلة فيها وعجز الحكومة عن حلها!! فالقوات الأميركية حلت لواء الفلوجة، وبعض الأفواج العسكرية انقسمت وتفككت والتحق بعض عناصـــرها بالمقاومة. والهجمات التي طاولت مواقع الشرطة والقوات الحكومية الرسمية ومواقع القوات الأميركية حتى في المنطقة الخضراء أربكت الجميع وأثبتت أن الأمن غير ممسوك بالرغم من وجود عشرات الألوف من عناصر قوات الاحتلال واستخدام كل وسائل الأسلحة والترهيب والترغيب. محيط المطار ليس آمناً. وهبوط الطائرات مغامرة. والطريق إلى المطار ليس آمناً وكذلك إلى مقر القيادة الأميركية ومقرات المسؤولين العراقيين. والفوضى تعم البلاد. فعمليات التفجير والسلب والنهب والخطف للمطالبة بفدية أو تحت شعار سياسي ما يسيء إلى المقاومة والإسلام والمسلمين ويشوِّه الصورة، لكنه يعطي في الوقت نفسه صورة عن الوضع المهتز وعن الفلتان وعن مسؤولية قوات الاحتلال في ذلك وفشلها في تحقيق الأمن. هذا بالإضافة إلى حجم الدمار الهائل الذي تشهده البلاد. وقد أعلن الأميركيون أن كلفة إعادة إعمار النجف فقط ستكون خمسمائة مليون دولار، فما هي الكلفة إذاً لإعادة إعمار البلاد كلها؟؟ هذا إذا توقفت الحروب في وقت قريب وهو أمر غير محتمل الآن؟
إنها جهنم بكل ما للكلمة من معنى. جهنم العسكرية والأمنية والسياسية والإعلامية والأخلاقية في الوقت ذاته ولذلك تبدو مجدداً القضية بالنسبة إلى الأميركيين قضية حياة أو موت.
لقد فشل الاحتلال في الإدارة المباشرة. ترك بريمر البلاد مخلفاً وراءه فضائح سياسية ومالية وأخلاقية في السجون، وفساداً في الإدارات وقرارات هي موضع انتقاد المسؤولين العراقيين اليوم كما كانت موضع انتقاد عدد كبير من أعضاء مجلس الحكم السابق. وفشل الاحتلال بالإدارة غير المباشرة من خلال الحكومة المؤقتة التي ينتقد أعضاؤها السياسة الأميركية كما ينتقد الأميركيون ضعف هؤلاء وسوء إدارتهم في الداخل وعدم تمتعهم بالشرعية الشعبية الكاملة. يضاف إلى ذلك الفشل في المحافظة على كل عناصر قوات التحالف، وفي عدم استقطاب حلفاء وأصدقاء جدد إلى داخل العراق رغم قرارات مجلس الأمن، وفي عدم عودة الأمم المتحدة إلى البلاد. ويذكر في هذا المجال أن ثمة ضغطاً قوياً من كبار موظفي وخبراء المنظمة الدولية على أمينها العام يترجم رفضاً من قبلهم للمجيء إلى العراق والعمل فيه لأنه ليس بلداً آمناً ولأنهم ليسوا عسكراً ولأن من كان قبلهم هناك قتل والفوضى العارمة اليوم في البلاد لا تبشر بخير في ظل خطف الأجانب والتنكيل بهم فضلاً عن قلق عدد كبير من المؤسسات الخاصة الدولية ورفضها العمل في العراق ومغادرة عدد كبير من الموظفين والمستثمرين الذين جاءوا إلى "الجنة" بعد تحرير الأرض من النظام السابق، فإذا بهم في قلب جهنم!!
لقد سقطت كل الآمال حتى الآن، والقوات الأميركية لا تزال تمارس سياسة الهروب إلى الأمام، والأرض المحروقة وقتل المدنيين الأبرياء جماعياً، إضافة إلى قتل الإعلاميين الأمر الذي يكرس أزمة الثقة مع أميركا ويسقط صدقية إدارتها أكثر.
وإذا كانت أميركا تمارس ضغوطاً وتقر قوانين ضد دول متهمة إياها بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى، فهل ما تقوم به في العراق هو احترام للإرادة العراقية وتأكيد لعدم التدخل في شؤونه؟ أم أنه تدمير مبرمج لكل المدن والقرى والأحياء؟
وإذا كانت تركيا تتدخل لحماية التركمان في تلعفر من الأميركان، وإذا كانت إسرائيل تحرض في اتجاه مزيد من ارتكاب المجازر وتدمير العراق، فهل يجوز أن يبقى الصمت سيد الموقف العربي تحت عنوان عدم التدخل في الشؤون الداخلية أيضاً؟؟ وبالتالي هل يمكن أن يترك العراق مكشوفاً لمواجهة مصيره منفرداً وهو البلد الضعيف الفقير اليوم المبددة إمكاناته وثرواته وجهنم المفتوحة؟؟
ترى هل هي حسابات الدول والأنظمة والأشخاص تتغلب على الحسابات العامة وحسابات الأخوة؟؟
إن أميركا إذا اعتقدت أنها قادرة على الاستمرار بمثل هذه السياسة بمعزل عن الإرادة العراقية وبدون مراجعة للحسابات وللخطط والقرارات، وبمعزل عن التعاون مع دول الجوار، وتعزيز الحوار في الداخل والإقلاع عن لغة التهديد والوعيد فإنها تكون واهمة وستتعرض لمزيد من الضربات والخسائر. وكذلك فإن دول الجوار إذا استمرت على صمتها معتبرة أن ذلك هو أفضل سياسة وأضمن حماية لها فهي أيضاً واهمة ولن تكون بمنأى عن نار جهنم التي ستمتد إليها. وحدها إسرائيل هي المستفيد من هذه الجهنم لأنها تتلاقى مع جهنمها على الأرض الفلسطينية، حيث يتلاقى في الاثنتين شياطين الدولتين الحليفتين وإرهابيوهما من واشنطن إلى تل أبيب!!
لابد من البحث عن حل سياسي يبدأ بحوار داخلي يبدأ هو الآخر بالاعتراف بالمأزق وبدور كل المرجعيات والقوى السياسية وبالعمل على سحب قوات الاحتلال، كما لابد من حوار مع دول الجوار كبداية للإمساك ببعض مفاتيح أبواب جهنم تمهيداً لإغلاقها!.
التعليقات