منذ ان احترفت مهنة الكتابة سعيت لأن يكون لي بيت صغير من الحروف والكلمات وورق الحائط علي ذوقي‏..‏ لا يشبه بيتا غيره‏..‏ يسهل علي الناس التعرف عليه دون لافتة‏..‏ بابه مفتوح دائما للشمس‏..‏ والنور‏..‏ وعصافير الحرية‏.‏

لم أكن أومن بسياسة الاستئجار في الكتابة‏..‏ فالسكني في بيوت تحمل رائحة الآخرين وتعبر عن ذوقهم وتعكس أسلوبهم في التعبير لا تريح ولا تدفيء‏.‏

إن الكتابة المختلفة ليست صورة في المرآة لظلال من جاءوا قبلنا‏..‏ ليست نسخا بماكينة التصوير الفورية تحمل ملامح من سبقونا‏..‏ لا قيمة لكتابة تعيد اكتشاف الأشياء المكتشفة وتستعمل ماسبق استعماله من حجارة قديمة‏..‏ ان الطبيعة تحتمل التكرار والإعادة‏..‏ أما الكتابة فلا تتحملهما‏..‏ الطبيعة تحتمل ملايين الأشجار من الفسيلة الواحدة‏..‏ سنابل القمح‏..‏ زهور القطن‏..‏ ثمار الخوخ‏..‏ مثلا‏..‏ إنها تتسامح معها‏..‏ لكنها‏..‏ لا تتساهل مع كاتبين يقولان الكلام نفسه‏..‏ ويغزلان الحروف والسطور بالطريقة ذاتها‏..‏ إذا كانت الكلمات لا تضيف شيئا فما جدواها ؟

والسؤال طرحناه معا‏..‏ أنا والصحفي الأمريكي الأكثر شهرة بوب وود ورد‏..‏ كنا نجلس في نادي الصحافة القومية‏(‏ ناشيونال برس كلوب‏)‏ القريب من البيت الأبيض في واشنطن‏..‏ نكشف المستور في كل خبر يصل إلينا عبر جهاز التيكرز‏..‏ أو جهاز التليفزيون‏..‏ أو جهاز الموبايل‏..‏ لقد كان يمارس عمله مديرا لتحرير صحيفة واشنطن بوست دون توقف‏..‏ وهو يتناول طعامه الصيني‏..‏ وهو يحتسي الشاي الأخضر مع أصدقائه‏..‏ ويسجل ملاحظات مبهمة علي منديل ورق علي المائدة‏..‏ كل ذلك وهو يناقش معي في لقاء دبرته المقادير خصوصية الصحفي وشخصيته المتميزة عن غيره‏..‏ وضرورة أن يبقي محافظا علي دهشة الناس وتوترهم في كل مايأتي به‏.‏

لقد رفع بوب وود ورد الكلفة السياسية بين خبايا السلطة واهتمامات الناس‏..‏ واقنع أكثر الأسرار عمقا وخفاء أن تتباسط ونجلس مع البشر العاديين في المطاعم والمقاهي ودور السينما والحدائق العامة‏..‏ تقاسمهم الهمبرجر و الهوت دوجز و السفن اب وحبات الفشار الساخن وهم يشاهدون فيلم حديقة الديناصورات‏..‏ وتتصادق في الوقت نفسه مع الطلاب والعمال والموظفين وربات البيوت‏.‏

بل أكثر من ذلك رفع مستوي الكلمة الي قامة السلطة العليا في بلاده‏...‏ ومنحها حق المراقبة والمطاردة والمحاسبة والمحاكمة حتي لأصحاب الهامات والمقامات الرفيعة‏..‏ لقد كان ذلك منذ نحو‏30‏ سنة في القضية الشهيرة التي عرفت بـ ووترجيت والتي أطاحت بالرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون‏..‏ في سابقة لم تحدث من قبل‏..‏ خرجت فيها الصحافة صاحبة جلالة بالفعل‏..‏ لا بالشعر‏..‏ بالواقع‏..‏ لا بالوهم‏.‏

لكن‏..‏ الصحفي الذي ظل يشغل الدنيا سنوات طويلة بما يكتب وبما يكشف وبما ينشر قرر فجأة ترك منصبه‏..‏ مدير التحرير المساعد للأخبار والتحقيقات الذي تولاه منذ عام‏1982..‏ حمل أوراقه الخاصة وصوره الشخصية وملفاته الصحفية وغادر مكتبه الذي يسيطر منه علي مايجري في الدنيا كلها لوافد جديد يجدد شباب الصحيفة‏..‏ ويرد اعتبارها المفقود في سوق التوزيع الذي انهار بنسبة تكاد لا تذكر‏,,‏ نسبة لا تزيد في المتوسط عن ثلاثة في المائة‏..‏ خاصة في عدد يوم الأحد الاسبوعي الذي يشرف علي كل صغيرة وكبيرة فيه‏..‏ وهي نسبة تكاد لا تذكر‏..‏ علي ان معظم النار من مستصغر الشرر‏..‏ ولو لم ترمم الشرخ العابر سيصبح كسرا واضحا‏..‏ هذه هي طبيعة النظام الرأسمالي‏..‏ افتح الطريق السريع لمن يقوي علي السباق‏..‏ واحمله خارج الملعب في أول لحظة يسقط فيها‏.‏

إن الصحافة امرأة لا تشيخ‏..‏ تستهلك الرجال ولا تكبت رغباتها‏..‏ لا تسلم نفسها إلا لمن يقدر علي السيطرة عليها‏..‏ ولو ضعف أو هزل أو فكر في طلب اجازة مرضية او عطلة سياحية بحثت عن رجل غيره‏..‏ وهي لا تعتبر نفسها أملاكا خصوصية لأحد‏..‏ يؤممها لحسابه‏..‏ ويسخرها لأغراضه‏..‏ ويصور له خياله المريض أنه سيدها ومولاها وتاج رأسها‏..‏ وهو في الحقيقة مجرد مريض بالوهم والهلوسة‏.‏

لقد ولد بوب وود ورد في جنيف‏..‏ ليجد نفسه في عائلة صارمة‏...‏ بسبب مهنة الأب‏..‏محام شهير‏...‏ لكنه‏...‏ أراد أن يهرب من ذلك التزم بدراسة الأدب الانجليزي في منحة حصل عليها من جامعة ييل بعد بضعة أشهر من حصوله علي الليسانس عام‏1965‏ لكنه سرعان ماطلب للتجنيد في مشاه البحرية الأمريكية‏...‏ ووجد نفسه ضابطا للاتصال في غرفة مركزية للعمليات‏..‏ كان ذلك في وقت بدأت فيه حرب فيتنام‏..‏ لكنه لم يشارك في هذه الحرب‏...‏ بل كان من اشد المعارضين لها‏.‏

كان والده يتمني أن يسير علي خطاه وأن يدرس الحقوق في جامعة هارفارد‏..‏ لكنه‏.....‏ اختار مهنة الصحافة بديلا عن أحلام أبيه الذي اتهمه بالجنون‏.....‏ ومالصق صفة الجنون به‏....‏ أن التحقيقات الأولي التي نفذها في فترة تدريبه لـالواشنطن بوست لم تنشر‏..‏ وقال له مدير تحريرها الأسبق‏:‏ إنه غير مؤهل للكتابة في صحيفة يومية واسعة الانتشار مثل واشنطن بوست‏..‏ ورتب له العمل في جريدة إقليمية تصدر في ضاحية مونتجمري الصغيرة في ولاية ميرايلاند اسمها سننيال‏..‏ لكنه أصيب بالملل من المهام التي كلف بها‏..‏ وبعد سنة تقريبا عاد إلي واشنطن بوست بحثا عن فرصة أخري‏.‏

لم يكن أمامه سوي تغطية أخبار المحليات‏..‏ الغش التجاري‏...‏ التلاعب في ضريبة المبيعات‏...‏ جرائم أقسام الشرطة‏..‏ وخلال سنة نجح في فرض تقاريره الإخبارية علي الصفحة الأولي‏...‏ وفي صيف عام‏1973‏ وصل إليه خبر القبض علي خمسة رجال مزودين بأجهزة تصوير وتنصت دقيقة بتهمة اقتحام مقر اللجنة القومية للحزب الديمقراطي في المجمع السكني المعروف باسم ووترجيت‏..‏ وسارع بوب وودورد ومعه زميله كارل برنشتاين الذي كان أكثر شهرة منه‏..‏ ليجدا نفسيهما مغموسين في أخطر قضايا العصر‏..‏ فقد ربطا ما بين الواقعة الجنائية والجريمة السياسية التي ارتكبها الرئيس ريتشارد نيكسون في حق معارضيه‏...‏ وكانت النتيجة في النهاية وبعد سنة كاملة من القتال الصحفي تقديم استقالته وخروجه من البيت الأبيض مطرودا‏..‏ مكسورا‏.‏

وهكذا‏..‏ قفز المراسل الصغير المتجول بين مكاتب الموظفين وأقسام الشرطة من مكتب صغير بالقرب من أرشيف الصحيفة ودورة مياهه إلي مكتب في الصدارة وكتاب يروي قصة ما حدث تحول إلي فيلم سينمائي يحمل الاسم نفسه‏:‏ كل رجال الرئيس‏.‏ لقد فتحت له كل الأبواب‏...‏ ومهدت أمامه كل الطرق‏...‏ ليجد نفسه في غمضة عين أشهر صحفي في الدنيا كلها‏..‏ علي صدره غالبية الجوائز المحترمة‏...‏ واشهرها جائزة بوليتزر‏...‏ إن المجتمع المفتوح هو مجتمع يفرح بالموهبة ويشجعها ويتحمس لها ويلمعها‏..‏ لا أن يستنفر ضدها‏...‏ ويتربص بها‏..‏ ويسعي جاهدا للقضاء عليها‏...‏ فهي قيمة مضافة إليه‏.....‏ وثروة بشرية تضاعف من قيمة ثرواته المالية‏...‏ المجتمع السوي هو الذي لايعاقب الموهبة‏..‏ ولايسحقها‏..‏ ولايهشمها‏...‏ ولايظل يطاردها بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة حتي تنهار وتنسحب ليبقي جافا‏..‏ خشنا‏...‏ مثل قنفذ صحراوي بري منفوش بالأشواك والمسامير‏.‏

ولعل الحماس الساخن لمحقق مثل بوب وود ورد هو ماأحيا في الصحافة الأمريكية ما يمكن وصفه بالصحافة المحققة‏..‏ السائلة‏...‏ الصحافة التي لاتكف عن السؤال‏..‏ بحثا عن إجابة غير تقليدية‏.....‏ تبحث عن إجابة شجاعة‏...‏ تجعل القاريء العادي طرفا مباشرا فيما يجري في الكواليس والغرف الحاكمة‏..‏ المغلقة‏.‏

وحتي لايحمل صحيفته وجهة نظره‏....‏ وحتي لا يورطها في متاعبه المهنية‏...‏ قرر أن يكون الكتاب السياسي سباقا في الانفراد الصحفي عن الصحيفة اليومية بكل مافيها من كفاءات وإمكانيات‏..‏ كان كل كتاب يصدر له في توقيت حدث مهم بمثابة مفتاح لكشف الغموض المحيط به‏...‏ حدث ذلك عندما نشر كتابه القادة عن اسرار الحرب الأمريكية لتحرير الكويت بعد أن احتلها العرق‏..‏ وكيف اتخذت قرارات تلك الحرب؟‏..‏ بل وكيف أختير قادتها؟‏.....‏ وهو مافعله فيما بعد ايضا عندما نشر كتابه بوش في حرب بعد هجمات سبتمبر والحملة الأمريكية علي أفغانستان‏..‏ وهو مافعله فيما بعد كذلك عندما نشر كتابه خطة الهجوم عن الحرب الأخيرة علي العراق‏.‏

وربما كانت هذه الكتب هي الأكثر شهرة علي المستوي الدولي‏..‏ لكن‏..‏ كتابه الأخوة عن المحكمة العليا ومايجري تحت جلدها وكتابه الموسيقار عن ألن جرينسبان رئيس البنك الاحتياطي المركزي كان لهما صداهما المدوي علي المستوي المحلي‏...‏ وهو ماجعله مدرسة صحفية قائمة بذاتها‏..‏ لكن‏...‏ المدرسة التي لاتستطيع أن تطور مناهجها عليها أن تغلق أبوابها‏...‏ وتسرح عمالها‏..‏ فهذه هي سنة الحياة في مجتمعات لاتتوقف عن النمو والحركة‏.‏