منذ استضاف انصار المدينة، المهاجرين من مكة، بدأ مصطلح المهاجر والنّصير يأخذ دلالات يفرضها التاريخ، بمجمل ما طرأ عليه من تغيرات، وثقافة الهجرة بالمعني الذي نوّد استقصاءه في هذا السياق، اقترنت بالقداسة، بحيث اصبح التاريخ مشطورا الي ما قبل الهجرة وما بعدها، لهذا لم يؤرخ المسلمون بميلاد النبي، بل بعام هجرته، لأن الهجرة وفق مفهوم ثقافتنا هي المنفي المؤقت الذي تعقبه العودة الظافرة التي تحمل اسم الفتح، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من اجتراح، وافتراع للمكان، اضافة الي افتضاض المغلق، والموصد علي ثقافة مغايرة، والفارق بين هجرة بلا عودة، او بلا أمل وبين هجرة هي شرط العودة وضريبتها الباهظة توضحه الثقافة في تجلياتها زمانيا ومكانيا، خصوصا في عصرنا الذي ازدهرت فيه أدبيات المنفي، وصال المهاجرون وجالوا حتي نسبت اليهم الزيادة في اكثر من ميدان ابداعي.
وحين يؤرخ الفرنسيون مثلا لما يسمي مسرح اللامعقول، فان الاسماء الثلاثة الكبري والرائدة في هذا المجال، هي لكتاب قادمين من خارج فرنسا، والثقافة الفرانكفونية كلها، وهذا ما يمكن ان يقال ايضا عن النقد الجديد خصوصا عندما يتذكّر القاريء اسماء مثل تودوروف وكريستيفا، وآخرين، فتودوروف مثلا لم يكن يعرف الفرنسية قبل عام 1960، والتحليل الأولي الذي يقدّمه المشتغلون في حقلي الانثروبولوجيا والسيوسيولوجيا الثقافية يتلخص في ان الغرباء لا يعانون من وطأة الموروث في البلدان التي يحلّون فيها، وقد لا تملك حتي اللغة من الهيبة ما يفزعهم، ويحول دون مغامرتهم في الاشتقاق، والتجرؤ علي ما كان حتي حلولهم مقدسا وحصينا، لهذا كان من الضروري مقاربة تتناول المنفي أو الهجرة قدر تعلقهما بالثقافات والمبدعين، ان تدرأ الالتباس الذي يهددها بالجغرفة، وبمعني آخر كان يجب لمفهوم المنفي ان يحرر من بعده الجغرافي ـ المكاني والسطحي، وهذا ما حاول ادوارد سعيد بجدية، عندما كتب تأملات في المنفي، هي علي النقيض من الكتابة الرومانسية التي تورط بها آخرون عن المنفي المكاني.
واذا كان كل منفي يفترض وجود ملكوت ما ... فان مستوي معينا من النفي لا يطمح الي العودة لأنه ما من ملكوت علي الاطلاق في الجهة اوما من حنين غير ما يذرفه القلب من دمع باتجاه الحقيقة العارية، وهي ما سماه كامو الثقب الاسود، او الفراغ السحيق واللانهائي، فالعالم بكل ما يزخر به من معانٍ، هو صياغة وعي بشري، أحال العدم الي وجود، وكان سارتر أول وجودي استعان بوسائل الايضاح كي يجسّد مقولات كانت قبله مجردة، فهو الذي وصف الوعي بالمرآة، وبأن المرآة لا محتوي لها علي الاطلاق، الا ما تعكسه، وهكذا الاشياء في العالم، فهي غير موجودة الا عندما يدركها الانسان بوعيه، وهنا يبدأ الافتراق بين سارتر والظاهراتيين او الشتغلين في ما يسمي الفينومونولوجيا لأن الاشياء بالنسبة للظاهراتي موجودة، حتي بمعزل عن وعيه، وهذا ما تشربه كتاب الرواية الجديدة امثال روب غرييه، حيث احتل الشيء لا الانسان دور البطولة، مثلما حلّ المكان في حيّز الزمان، فالمحبرة الملقاة علي مائدة في الغرفة المجاورة ستبقي موجودة حتي لو لم يعلم بوجودها من يفصله عنها جدار!
ہہہ
لم يحتكر العرب، والمسلمون ثقافة الهجرة، فهي موجودة في الثقافات كلها، وقد تكون تجربة الشاعر اوفيد الذي نفاه الامبراطور اوغست امثولة في ادب الهجرة والمنفي، لأن اوفيد نفي الي مكان لا حدود فيه بين الفصول، فكان عليه ان يبتكر هذه الحدود، وهذا الايقاعات من صلب خياله، ومن يدري لعلّ كتابيه فن الهوي، ومسخ الكائنات، هما من انتقام المنفي ممن نفاه، حتي لو لم يكن مدركا لذلك، لكن امتياز الثقافة العربية في جماليات المنفي وأدبيات الهجرة، يعود الي اقتران العقيدة بالهجرة القسرية، وان كان الملاذ هو عقيدة مغايرة (الحبشة والنجاشي)، ولم تكن حقبة التمدين الاولي، والخروج من الصحراء الي الدولة الا ذلك المنجم شبه الاسطوري لأثارة الحنين الي المفقود، فالصعاليك الذين سحبت الصحراء من تحت أقدامهم، نظموا قصائد مفعمة بالشجي وهم ينظرون الي الوراء... وهذا ما فعلته ايضا ميسون الكلبية التي تزوجها معاوية، فنظمت قصيدة بالغة الطرافة في الحنين الي البيداء ونباح الكلاب، واثافي الخيام ورزاد المواقد!
اما الأندلس فلم تكن مجرد تجربة في التاريخ، انها حالة نفسية، احالت الاندلس من بلاد الي فردوس مفقود، وكأن اللحظة الطللية أقامت في اللاوعي العربي، بحيث يكتب عام الفين عن حيفا والاسكندرون مثلما كتب امرؤ القيس او زهير عن أطلال جاهلية، والأرجح أن الحنين هو وقود الغناء، فلا بد من ابتكاره حتي عندما يغيب، والهناك ليست دائما مكانا قصيا، انها قد تكون في داخل الانسان نفسه، وهذا ما قاله بالفعل (جوته) الالماني من خلال رواية نادرة عن حنين غامض، اذ تبكي البطلة الرومانسية طوال الوقت لأنها تشعر بالحنين الي مكان تجهله!
ومنذ التجربة الوداعية في الأندلس، لم يشهد العرب حنينا الي العودة كما شهدوا خلال نصف قرن مضي، وكان احتلال فلسطين وتشريد اهلها المادة الاثيرة لدي شعراء فلسطينيين وعرب احترفوا كتابة شعر الحنين، واصبحت الهجرة، سواء حملت اسم المنفي او اي اسم آخر هي الجاذب الأساس لوعي يتلفّت حوله فلا يري شيئا، ولا يثق بشيء حتي لو رآه، لهذا يستدير الي الوراء، ما دامت الحقيقة كلها هناك، وهنا سأورد مثالا يستحق التأمل عن الكيفية التي تعامل بها شعراء فلسطينيون وعرب مع اسطورة (عوليس)، فهم جميعا وقعوا ضحية وعي سالب بالتاريخ والزمن، ونسوا ان غياب عوليس في البحار عشرين او ثلاثين عاما، لن يضجر (بنيلوب) ولن يغيّر من احوالها، الي ان جاء ريتسوس اليوناني وقلب المائدة الشعرية، عندما جعل بنيلوب تنكر عوليس الشيخ المريض العائد، وتندم علي سنوات الصّبا التي بددتها في الانتظار العقيم!
لكأن الفارق بين هجرة من أجل الهجرة، ومنفي من أجل المنفي، وبين هجرة هي شرط العودة والفتح، هو ما يتضح لنا من خلال التعامل الأدبي مع الواقع وما يتخطاه، او بين القائم وما يجب ان يقوم، وخلال عقدين سابقين، كان من الصعب علي الناقد او المؤرخ الادبي ان يحزر جنسية الشاعر المهاجر الحالم بالعودة، لأن عدوي الطللية الفلسطينية بلغ عواصم العرب كلها، وأحسوا احيانا كما يقول عبد اللطيف اللعبي بأنهم فلسطينيون من طراز آخر، ولهم يهودهم ومشردوهم، ومحتلوهم في عقر وطنهم!
ہہہ
عندما ينسب النقد العربي التقليدي جذور التحديث الي الأدب المهجري، فهو ينحاز غريزيا الي اللحظة الطللية المزمنة، والمقيمة في لا وعي العربي، لأن الهجرات كانت نمط الحياة اليومية في الصحراء، ما دام المهاجر اليه هو الماء حيث وجد، والكلأ حيث شمّت الخيول والماشية رائحته، لهذا تعتبر الهجرة الرسولية في ثقافتنا العربية انقلابا جذريا، بحيث لم تعد الهجرة من أجل الضرورة، بل من أجل الحرية، وليست كذلك من أجل وجبة قادمة، بل من أجل وجبة مؤجّلة تخص الروح!
بهذا المعني حررت الهجرة الرسولية مفهوم الهجرة الجاهلي من ماديته، وغائيته وآنيّته ايضا، ولم تستمد الهجرة قداستها من المهاجرين فقط، بل من كونها المهر او الثمن للعودة المحتمة والظافرة، التي حملت اسم الفتح!
ہہہ
السؤال الذي يلّح كلما استدعت الذاكرة كلمة هجرة ومرادفاتها، هو هل تشكل لدي العرب وعي مفارق لكل هنا ولكل هذا ، ما دام تحقيق الوعد مقترنا بالهناك ... وبتلك او بذلك؟
وعندما سخر ابو نواس من البكاء علي الاطلال كان قد أدرك قبل سواه ان من بكوا علي الاطلال قبله لم تكن لديهم اطلال، بل هي من اختراعهم، لأنها مرتكزات شعرية، وموروث جمالي، عاش بفضل حكمة غامضة هي اعذب الشعر اكذبه !
وأرجو ان لا يفهم من هذا اننا نسلم بما انتهي اليه مستشرقون جعلوا من سايكولوجيا الصحراء فخّا استدرجوا اليه العديد من النّصوص العربية، لكن مكوث الطلّل في لا وعي العربي اكثر من سواه يثير تأملات لا آخر لها، فأجمل ما كتب عن الأوطان كتب خارجها، كما ان اعذب ما كتب عن النساء كتب عن غيابهن، بحيث تحوّل الحرمان الي مطلب ابداعي مثلما تحوّل المهجر الي شرط لأكتشاف الملكوت!
ان تاريخا ينشطر بين ما قبل الهجرة وما بعدها، لهو تاريخ يعلي من شأن المهاجر، بل يقرن شروق الشمس به، ولعلّ هذا هو ما دفع كاتبا كالراحل حبرا ابراهيم جبرا الي الجزم بأن شمس الغد ستشرق من أجل المنفيين!
ہہہ
ان واحدا من اهم منجزات ادوارد سعيد هو تحريره لمفهوم المنفي من غنائيته ومن شعريته الرومانسية السّاذجة، فللتاريخ ايضا منفاه، وثمة من يؤمنون بحق انهم ولدوا في زمان آخر ومكان آخر قد يكون قبل موعد الولادة او بعده، لهذا فهم يشعرون بأنهم مهاجرون حتي لو توسدوا قبور اسلافهم!
التعليقات