قتل عمال وسائقين نيباليين وأتراك، واحتجاز تلامذة أطفال في أوسيتيا والنهاية الدموية الرهيبة لمأساتهم، وخطف صحافيين فرنسيين بعد تصفية صحافي ايطالي، وتفجير حافلتين تقلان مدنيين في بئر السبع... حملت بعض الغربيين وغير الغربيين على التوقف عند الاسلام بوصفه «القاسم المشترك بين المرتكبين».
لكن ملاحظة كهذه تبقى متسرعة وقاصرة ما لم تُستدرك بملاحظتين أخريين:
الأولى، ان البلدان والمناطق التي شهدت وتشهد هذه الانتهاكات الفظيعة تعيش مسألة احتلال في صورة أو أخرى. يصح هذا في العراقيين والفلسطينيين والشيشان.
والثانية، ان الشعوب التي ظهر فيها من يمارس هذا العنف الأعمى خارجة من قبضة أنظمة توتاليتارية (العراقيون)، أو توتاليتارية مشوبة باحتلال خارجي (الشيشان)، أو ان الاحتلال الذي تخضع له من طينة شمولية تملك على الناس حياتهم وموتهم (الفلسطينيون).
وهذا الاستدراك ليس مقصوداً به التخفيف من وطأة العناصر الثقافية، ولا، بطبيعة الحال، توفير أعذار للأعمال الارهابية الكريهة. لكن ليس المقصود ايضاً الدوران في حلقة الوعظ والإرشاد مما تلحّ عليه المآسي. فما تُظهره التجارب، بلغة اخرى، هو ان كمية الكبت والتعطيل التي تتعرض لها جماعة من الجماعات تترك تأثيرها اللاحق على سلوكها «السياسي» و«الأخلاقي». وربما كان الضحية الأول لعملية كهذه حسّ الجماعة المعنية بالمسؤولية التي تكافئ قضيتها، أو على الأقل صورتها عنها.
يقال هذا الكلام وفي البال ما يجري حالياً في لبنان، فيما الخلفية هي الأحداث السوداء في المنطقة بأوسع معانيها. فما صدر عن مجلس الأمن أبطأ قليلاً اندفاعة الحدث اللبناني، غير انه إبطاء يتم في حيّز من التسارع الدرامي. وهنا أيضاً ستُطرح موضوعة المسؤولية على اللبنانيين: هل يغلّبون حساً مدنياً راقياً لبناء المستقبل، ضداً على القائلين لهم: إنسوا المستقبل لأن اميركا واسرائيل تستفيدان منه!؟ أم يتغلب فيهم ميراث الخروج من سنوات الإلحاق، بعد سنوات الحرب، خصوصاً ان أطرافاً غيرهم تريد، من قبيل التصدي لكل تغيير، جرّهم الى «الفوضى»؟
ولأن البحث عن حسن النيّات عند «الأطراف» تلك مثل البحث عن إكسير الحياة، لم يعد مفيداً، إلا لغرض السجال، التذكير بأن الإمعان في الكبت سيؤدي لاحقاً الى إمعان في التخريب. أو ان قولاً كهذا، على صحته المبدئية، لن يحول دون درء الخراب ولن يدفع الممسك بالقرار الى سوية مسؤوليته المفترضة. على ان حس المسؤولية عند الطرف الضحية، أو ما يمكن ان يتوافر منه، هو الضامن الوحيد للحدّ من الخراب، إن لم يكن لتفاديه، ولجعل اللبنانيين، بالتالي، يستردّون وطنهم وسيادتهم.
والنجاح، هنا، اذا ما تم، كبير جداً. فإقامة نموذج سياسي أرقى من السائد في المنطقة، يكون أيضاً نموذجاً لتعايش يفتقر اليه الشرق الأوسط كله، أهم بكثير من تحديد استفادة هذا الطرف أو ذاك. وهل يعقل، بعد كل حساب، وضع شعوب برمتها في الثلاجة لأن قوى لا نحبها قد تستفيد؟!
إلا ان قضية اللبنانيين المحقة لا تكفي وحدها. فمرة أخرى، إن لم تتوفر المسؤولية استحال الكلام على تلك القضية تبشيراً ووعظاً ميتين، كما تَهدّد الدفع نحو إحقاقها بمخاطر الفوضى - أقوى أوراق الوضع القائم.
التعليقات