علي طريقة الحكايات والخرافات‏..‏ سمح الرجل الوقور لزوجته الشابة‏,‏ أن تفتح كل غرف البيت‏..‏ ما عدا غرفة واحدة‏..‏ يضع فيها تذكاراته الشخصية‏..‏ ما تبقي من أقلامه الرصاص التي استخدمها من أول يوم في الحضانة الي آخر يوم في الجامعة‏..‏ الهدايا التي تلقاها في أعياد ميلاده‏..‏ من لعبة السلم والثعبان الي اسطوانات الموسيقي القديمة‏..‏ ومن قصص الأطفال الي منفاخ الدراجة‏..‏ لكن‏..‏ أكثر ما لفت النظر‏..‏ كان مجموعة ماكينات وشفرات الحلاقة التي امتلكها منذ أن نبتت لحيته واخشن صوته وعرف طريقه الي عتبة الرجولة‏.‏

وفي البداية شعرت الزوجة أن الرجل الناجح الذي تزوجته هو شخص عاطفي سيرتبط بها بجنون‏..‏ علي الأقل كما يرتبط بأشيائه الصغيرة‏..‏ العتيقة‏..‏ ما جري كان عكس ما توقعت‏..‏ فقد تبددت طاقة الزوج العاطفية في تلك الكراكيب‏..‏ ولم يكن نصيب الزوجة من مشاعره أكثر من نصيب منفاخ الدراجة التي لم يعد يركبها‏..‏ أو نصيب اسطوانة مشروخة لم يعد يسمعها‏.‏

ان اقتناء الكثير من الكراكيب‏,‏ يعكس في كثير من الأحيان شعورا بالوحدة والخوف من الاحتياج للحب والألفة‏..‏ ويستهلك كل طاقة المشاعر العميقة التي نحتاجها للتعبير عما في أعماقنا‏..‏ فلا يتبقي منها ما نمنحه لغيرنا‏..‏ ليكون كل ما بيننا جافا‏..‏ خشنا‏..‏ ولو سألت غالبية المطلقات عن سر الفشل في حياتهن‏..‏ ستكون الاجابة‏:‏ ان ضرتها التي انتصرت عليها كانت كراكيب أدمنها زوجها ولم يستطع التخلص منها‏..‏ بل احتفظ بها علي حساب زوجته‏.‏

والكراكيب حسب تعريف كارين كينج ستون في كتابها عبودية الكراكيب‏,‏ هي مجموعة الأشياء المسببة للفوضي والزحمة التي لا نستعملها وتستهلك مساحة كبيرة من حياتنا وطاقة أكبر من قوتنا الداخلية‏..‏ وفي الكتاب نفسه الذي ترجمته مروة هاشم ونشرته شرقيات‏,‏ فإن الاحتفاظ بالكراكيب يعكس عيوبا نفسية لا نصارح بها أنفسنا‏..‏ فهي تفضح تمسكنا بالماضي‏..‏ وخوفنا من المستقبل‏..‏ فالكراكيب أشياء قديمة فقدت صلاحيتها‏..‏ كما أنها تفضح نوعا من الأنانية‏..‏ فهي أشياء لا نحتاجها ويمكن أن يحتاجها غيرنا‏..‏ وبرغم ذلك نتمسك بها‏..‏ كذلك فانها تكشف احساسا بعدم الأمان‏..‏ وحب التملك‏..‏ والبخل‏..‏ والبحث عن مكانة اجتماعية مفقودة بامتلاك الأشياء نفسها التي يمتلكها المعارف والأقارب‏.‏

انظر حولك ستجد كميات هائلة من الكراكيب المحبوسة في بيتك ومكتبك وسيارتك‏,‏ التي تحتاج الي اطلاق سراحها وسراحك أنت أيضا‏..‏ فأنت في الحقيقة لا تمتلك هذه الأشياء‏..‏ وانما هي التي تمتلكك‏..!!‏ إن الحياة في حالة تغير مستمر‏..‏ وعليك أن تستمتع بالاشياء التي تأتي بها‏..‏ استخدمها الاستخدام الأمثل‏..‏ وعندما يحين أجلها‏..‏ تخلي عنها دون تردد‏..‏ حررها‏..‏ فأن تمتلك شيئا لا يعني الاحتفاظ به الي الأبد‏..‏ انك لست سوي حارس مؤقت لأشياء كثيرة تمر بحياتك‏.‏

إن كل شيء تمتلكه هو طاقة مؤقتة‏..‏ ربما تعتقد أنك تمتلك بيتك أو سيارتك أو رصيدك في البنك‏..‏ هذه خرافة شائعة‏..‏ والحقيقة أنك لا تمتلك حتي الجسد الذي تسكن فيه‏..‏ كل شي في حياتنا هو قرض مؤقت من الطبيعة‏..‏ عليها أن تسترده في الوقت المناسب كي تقوم بتعديله وتشكيله من جديد في اشكال مختلفة بدونك‏..‏ ان جسدك ليس سوي تمثال مؤقت تتجسد فيه روحك‏..‏ والجسد متغير‏..‏ والروح الذي تسكنه أيضا‏..‏ فلماذا تنمو أنت وتبقي الكراكيب من حولك علي ما هي عليه تذكرك بمرحلة متخلفة تجاوزتها وابتعدت عنها؟‏.‏

وما لم تقله كارين ستون ان اخطر من كراكيب الأشياء‏..‏ كراكيب الأفكار‏..‏ ان عقولنا مخزن نحتفظ به بتصورات بالية وخاطئة للحياة‏..‏ ولا نريد أن نتخلص منها‏..‏ لا نريد أن نغسلها‏..‏ وتركنا العنكبوت يفرض خيوطه عليها‏..‏ والحشرات الزاحفة تسيطر عليها‏..‏ ان الخوف من النكد بعد الضحك فكرة خاطئة تفسد علينا بهجة اللحظة‏..‏ وتصور أن تجديد غرفة مكتب المسئول سيخرجه منها ويأتي بمسئول جديد ليحتلها‏..‏ يحطم رغبتنا في التغيير‏..‏ والقول بأن الحليب في ثدي الأم يجف فور دخول عاقر عليها‏,‏ هو جرح لمشاعر امرأة لا ذنب لها‏..‏

والفتاوي الخاطئة في الدين والجنس التي نتوارثها كما هي‏,‏ دون فحص ومراجعة يكرس أوضاعا اجتماعية ونفسية تضعنا في قوالب من جبس لا نملك الشجاعة لكسرها‏.‏

حاول أن تقوم بعملية غسيل لمخك قبل أن يفعلها غيرك‏..‏ جرب أن تزيل بقع الزيت التي جمعت الغبار علي عقلك‏..‏ ستحرر تفكيرك من طاقة محبوسة في تلك البقع‏..‏ ستغير حياتك بسرعة مذهلة‏..‏ ستشعر بأنك شخص مناسب للوقت الذي تعيشه‏..‏ ستعود من ذلك الزمن السحيق البعيد الذي تحتفظ بكراكيبه‏..‏ ستسترد رشاقتك النفسية‏..‏ والذهنية‏..‏ ستشتعل بالحركة‏..‏ بالرغبة في القفز الي أعلي‏..‏ ستخرج من جلدك‏.‏

ولو نظرت حولك‏..‏ ستجد أشخاصا لا يختلفون عن الكراكيب‏..‏ يستهلكون مساحة كبيرة من حياتك‏..‏ ويضيعون وقتك‏..‏ ويهدرون طاقتك‏..‏ لا يضيفون لك معرفة‏..‏ ولا قيمة‏..‏ وفي وقت الشدة يتخلون عنك‏..‏ وربما تحتفظ بهم مثل الجرمافون القديم علي امل أن تستفيد منه ولو مرة‏..‏ أو علي أمل اصلاحه‏..‏ او طبقا لقاعدة شهيرة خاطئة‏..‏ قاعدة ان ما نعرفه أفضل مما لا نعرفه‏..‏ وان ما نخسره أفضل مما نكسبه‏..‏ وان المركب التي تذهب أفضل من المركب التي تأتي‏..‏ انها الكراكيب السحيقة غير المرئية الأكثر خطورة من الاشياء القديمة‏,‏ التي نضعها في البيوت والمخازن‏.‏

إن المعاني هي قلب المباني‏..‏ والوجه النفسي لها‏..‏ فالكراكيب في مكتبك تسبب الخسارة المالية‏..‏ كما حدث لمحام ترك بعض المرايا المكسورة خلفه‏..‏ وقد اصابته الدهشة عندما فوجيء بعد التخلص منها بأيام قليلة بعملاء كبار يطرقون بابه‏..‏ والكراكيب في غرفة نومك تدمر علاقاتك العاطفية والجنسية‏..‏ ان وجود دولاب الأحذية في غرفة نومك يصرفك عما هو أمتع من احصاء عدد الصنادل التي تمتلكها بل ان وجود التليفزيون في غرفة النوم هو في حد ذاته نوع من الكراكيب الموجودة في المكان غير المناسب‏..‏ ان النصيحة الأولي في مكاتب التوفيق بين الأزواج في جميع أنحاء الدنيا‏..‏ هي انقلوا التليفزيون بعيدا عن غرفة النوم حتي لا يكون عازلا وعزولا‏.‏

وربما ستصاب بالدهشة لو قست المساحة التي تحتلها الكراكيب في بيتك‏..‏ ستجد انها في كل مكان تقريبا‏..‏ في البدروم‏..‏ والسطح‏..‏ ودرج مكتبك‏..‏ وعلي موائد السفرة والمطبخ وحجرات الصالون‏..‏ ووراء الأبواب والممرات‏..‏ والمطبخ والحمام‏..‏ وحجرات الجلوس والمعيشة‏..‏ وتحت الأسرة‏..‏ وفوق الدواليب‏..‏ وداخل خزانة الملابس‏..‏ والسيارات‏..‏ وأكثر من ذلك هناك حجرات خاصة للكراكيب‏..‏ وهناك كراكيب محمولة‏..‏ كراكيب الحقائب التي نحملها معنا في كل مكان‏.‏

وأخطر أنواع الكراكيب‏..‏ كراكيب المجموعات‏..‏ ان هناك امرأة في جنوب ايرلندا تحتفظ بأكثر من ألفي قطعة زينة علي شكل ضفدعة‏..‏ وفي لندن حصل طفل علي خنزير من البلاستيك وسرعان ما اعجب به فراح يقلده ويرسمه علي كل مكان حتي هرب اصدقاؤه منه‏..‏ ونجحت سيدة في التوصل الي أكثر من مائة شكل للبط‏..‏ لقد كانت تعاني من الوحدة‏..‏ ولم تتزوج أبدا‏..‏ وكانت النصيحة ان تتخلص من صور وأشكال البط الكثيرة الموجودة في بيتها‏..‏ وسرعان ما وجدت الرجل المناسب‏.‏

لا تكن مجنونا بجمع الأشياء دون أن تدرك السبب‏..‏ فتش عن سر رغبتك الشديدة في جمع شكل حيوان معين‏..‏ فربما كنت تبحث عن صفة ما تعجبك في هذا الحيوان‏..‏ جرأة الأسد‏..‏ شهامة الفيل‏..‏ وفاء الكلب‏..‏ براءة الزرافة‏..‏ مثلا‏..‏ قد يستغرق الأمر وقتا طويلا حتي تكتشف ذلك وتصبح قادرا علي التخلي عن هذه الرغبة‏.‏

وأصعب أنواع الكراكيب‏..‏ التذكارات العاطفية‏..‏ كروت الزفاف واعياد الميلاد ورأس السنة‏..‏ كذلك المذكرات الشخصية‏..‏ والخطابات الغرامية‏..‏ ورسومات اطفالنا الذين كبروا وتزوجوا وانجبوا الآن‏..‏ لايمكن أن تمزق أو تحرق أو تكنس هذه التذكارات‏..‏ لكن‏..‏ عليك فقط أن تحتفظ بأفضلها‏..‏ أما الصور‏..‏ فالنصيحة المناسبة هي أن لا تحتفظ إلا بصور المناسبات السعيدة‏..‏ تخلص من صور المناسبات العصيبة‏..‏ ان ذلك سيوجد مساحة لشيء جديد وأفضل في حياتك‏.‏

لكن‏..‏ رغم ذلك‏..‏ كله لابد أن اعترف بأن باب النجار مخلع‏..‏ فأنا مستعد أن أتخلص من كل الكراكيب المادية والذهنية والبشرية والعقلية‏..‏ لكنني‏..‏ لا استطيع أن أفعل ذلك مع الكتب‏..‏ وهي ليست مشكلتي وحدي‏..‏ وانما مشكلة من يطلق عليهم أصحاب العقول المتفتحة‏..‏ فكيف يعالجون مشكلتهم؟‏..‏ الإجابة تستحق الانتظار‏.‏