تلقى أعمال الإرهاب التي يقوم بها إسلاميون، هنا وهناك، نقداً واسعاً من العرب والمسلمين. لكن فداحة الارهاب، لا سيما ما قام به الشيشان، لا تزال أكبر بكثير من الادانة. ذاك أن أقوالاً من طينة «إنهم مجرمون» وان «الإسلام منهم براء» لا تكفي، بمعنى أنها لا تردع عن إرهاب، كما لا تؤسس لوعي بديل ينافيه وينفيه.
وبدوره، يقلق ذاك التحليل البارد فيحمل على الظن أنه يخبىء التعاطف في ثوب «الموضوعية». ذاك أن عدم التناسُب العسكري بعد الحرب الباردة لا يكفي وحده في تعقّل الظاهرة وتقليب احتمالاتها. فالمهاتما غاندي قاد معركته ضد قوات الاحتلال البريطاني في ظل عدم تناسُب مطلق. والشيء نفسه يصح في لوثر كينغ وحركة الحقوق المدنية الأميركية. لا بل ان عدم التناسُب العسكري كان العامل الأبرز لمصلحة اتباع استراتيجية اللاعنف في الحالين. وقد لا يكون لدينا غاندي، أو لوثر كينغ، وقد نكتشف أن علاجهما لا ينفعنا. لكن الأهم ان الخلفية الثقافية التي صدرا عنها، وانحاز اليها نيلسون مانديلا في سجنه، ليست في جعبتنا. لهذا لم تحفل الحياة الفكرية العربية بموضوع كهذا وبمحاولة درسه وقياس احتمالاته. فالشيخ يوسف القرضاوي، مثلاً، والذي يوصف بأنه «معتدل»، وهو تمثيلي بما لا يرقى اليه الشك، أفتى بقتل المدنيين الأميركان في العراق، وأكد «اعتداله» بأن نهى عن التمثيل بجثثهم! كذلك رأى مرشد الاخوان المسلمين المصريين، محمد مهدي عاكف، تعليقاً على مجزرة بيسلان، أن الخطف ربما كان جائزاً أما القتل فلا.
وبما أن الحروب الراهنة، وأكثر من أية حرب سابقة، ترشّح المدنيين لأن يكونوا ضحاياها المفضّلين، فهذا ما يُفترض به، أخلاقياً على الأقل، أن يحضّ مؤيدي المقاومات الشائعة على بذل بعض الجهود، وصولاً الى صيغة أرقى في خوض مقاوماتهم. أما التمييز الخطابي بين مقاومة «أصيلة» وبين من «يشوّهون صورة المقاومة»، فتُخفي انتقائيتُه خبثاً لا ينطلي إلا على من يريد ان ينطلي عليه.
والأنكى أن بعض الذين دانوا خطف الصحافيين الفرنسيين، ردوا إدانتهم الى سبب أوحد هو أن مواقف فرنسا «حيال قضايانا» إيجابية. فكأن الدولة التي لا تكون مواقفها إيجابية حيالنا يجوز خطف مواطنيها وقتلهم. وكأن الربط جائز بين الحكومات ومواطنيها، وهو ربط ينمو على تصور قبَلي للعالم ممزوج بعقلية تآمرية وبنزعة استبدادية يُعجزها الفصل بين الشعوب والحكام.
ولا بد كيما يستقيم الموقف من مراجعة أخرى تطاول عمليات الخطف وقتل الأولاد التي ارتكبتها منذ السبعينات أطراف وقوى سمّيناها تحررية ووطنية. وقد بات من يذكّر اليوم بأن حزب الله، مثلاً، ابتدأ مقاومته بخطف الرعايا الأجانب، «متجنّياً» على الحزب الأسطوري، إن لم يكن «جاسوساً» و«عميلاً». أما الطريقة الأكثر مداورة وخبثاً في الترويج، فذاك التشكيك بوجود أبو مصعب الزرقاوي، إن لم يكن نفي وجوده واعتباره اختراعاً أميركياً!
الا أن الموقف لا يستقيم ما لم يتغير الحلف الأكثر تأثيراً في تشكيل وعينا الرديء، أي المشايخ بفتاواهم والقنوات التلفزيونية بأخبارها وبرامجها. فالمشايخ لن تُحمل إداناتهم على محمل الجد ما لم تكن قاطعة وتكفيرية لكل خطف او قتل للمدنيين، لا سيما الأطفال. وهذا من دون أي «لو» أو «إنما». وبدورها، فالتلفزيونات العربية مدعوّة الى وقفة ضميرية ومهنية شجاعة تكفّ معها عن تقديم المنابر للقتلة، وتزويدهم بالحجج والتبريرات وتلك اللغة السقيمة عن «من يُسمّون إرهابيين» ممن هم «شهداء» لا حاجة معهم الى «من يُسمّون».
ما من شك في أن سياسات شارون وبوتين وبوش، ومن سبقهم في حكم بلدانهم، تتحمل مسؤولية مؤكدة عن هذه الجريمة المتناسلة. وما من شك في أن إرهاباً كهذا يجد ما يُديمه ويغذّيه في انسداد أبواب التسويات بالتفاوض والمضي، تالياً، في قهر الشعوب. لكن هؤلاء الارهابيين يستحقون، بنفس التوكيد، كل القسوة التي يمكن أن تلدها القوة من دون أية رحمة يمكن أن تنتجها الأخلاق. فحين تصمت عنهم مجتمعاتهم، وحين تدينهم بنصف يقين أو بطريقة متناقضة ومرتجّة، يوفّر سلوكها حجة قوية لأمثال بوش وشارون وبوتين. إذ ما العمل - كما يمكن أن يقولوا وكما يقولون - بمجتمعات لا تُطلع الا عنف الارهابيين وصمت المتواطئين وعجز من لا يتواطأ؟
التعليقات