من بين النقاشات الكثيرة التي تدور هذه الايام بمناسبة الذكري الثالثة لحوادث 11 سبتمبر الارهابية، كانت هناك حلقة حوارية باذاعة هيئة الاذاعة البريطانية (راديو 4) يوم السبت الماضي ، وطرح للتصويت مقترح يقول ان الطريقة الوحيدة لمواجهة الارهاب هو استعمال القوة. وبعد الاستماع الي أدلة مؤيدي الاقتراح ومعارضيه، جاءت نتيجة التصويت بفشل الاقتراح بنسبة اربعة الي واحد. اي ان مؤيدي استعمال القوة لمواجهة الارهاب لا يتجاوز 20 بالمئة، بينما هناك اساليب اخري للتعاطي مع هذه المشكلة، قد تستغرق وقتا اطول ولكنها أكثر فاعلية وأقل تكلفة. وفي مقابل ذلك هنالك الاستطلاعات العديدة التي طرحت في السنوات الاخيرة حول ما اذا كان العالم قد اصبح اكثر أمنا منذ 11 سبتمبر، واغلبها يؤكد عكس ذلك. فقبل يومين قالت نتائج استطلاعات للرأي العام الالماني حول الموضوع، بان 82 بالمئة من الالمان يعتقدون ان العالم اصبح أقل أمنا منذ حرب العراق العام الماضي.
اما استطلاعات الرأي العام الامريكي حول شعبية الرئيس جورج بوش منذ الحرب، فتكشف انها في انخفاض مستمر. فما بين سبتمبر 2001 وسبتمبر 2003، انخفضت شعبيته من 82 بالمئة (بعد 11 سبتمبر مباشرة) الي 45 بالمئة بعد عامين ولم ترتفع منذ ذلك الوقت. وتفيد الاستطلاعات الامريكية حول جورج بوش ومنافسه، جون كيري، ان الرئيس لا يتمتع بثقة عالية لدي الامريكيين، وان حظوظه من الفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة ما تزال محدودة.
وفيما استمرت ظاهرة التخويف من الاسلام في الاعلام الغربي بشكل متصاعد، لوحظ قدر من الايجابية في التعاطي مع المسلمين بدأ يتعمق في اذهان الساسة الغربيين عموما، وهو التمييز بين عموم المسلمين والأقلية التي تمارس العنف، واصبحت هناك نغمة تركز علي ضرورة التعاطي مع هذه الاغلبية، وتطالب بعدم اتخاذ اجراءات تؤدي الي اقصائها او اضعاف تأثيرها علي الساحة الاسلامية عموما. ولكن هذه الايجابية تختفي وراء الاجراءات الاخري التي اصبحت تطال المسلمين بدون تمييز، سواء في مجال التشريعات ضد الارهاب، وهي تشريعات تستهدف الوجودات الاسلامية في الغرب، وفي العالمين العربي والاسلامي، ام في الربط بين الارهاب والاسلام، ام في تكريس حساسية عامة ازاء الهوية والوجودات الاسلامية في الغرب. هذه الاجراءات المزعجة ادت الي اضعاف التيارات التقليدية علي حساب التيارات الشابة الأقل عقلانية في التعاطي مع الاوضاع المتجددة في العالم. هذه الاجراءات اصبحت ظاهرة مقلقة ليس للمسلمين فحسب، بل للنخب السياسية والثقافية في العالم الغربي التي تري ان المنحي العام لسير الامور يتجه نحو المزيد من التضييق علي الحريات العامة، وان هناك مساومة علي ما كان يعتقد حتي وقت قريب، حقوقا اساسية اكدتها التشريعات الدولية في مجال حقوق الانسان. وهذه الظواهر مقلقة جدا لتلك النخب لانها تعلم ان الحضارات انما تبدأ مرحلة السقوط عندما تنقلب علي المباديء الاساسية التي ترتكز عليها، وتلجأ لاستعمال القوة لحسم قضايا الخلاف مع الآخرين، وتضيق ذرعا بالآخرين، خصوصا من لا ينسجم معها في التفكير والموقف السياسي او الايديولوجي. الحضارات تستمر طالما كانت قادرة علي احتضان الآخرين، وصهرهم في محيطها العلمي والسياسي، وقائمة علي اسس انسانية لا تميز بين الناس علي اسس العنصر واللون واللغة، وبعيدة عن التعصب والجهل بالآخرين. هذه الخصائص بدأت تتلاشي في الحضارة الغربية الحالية خصوصا بعد 11 سبتمبر، وهو امر من شأنه ان يؤدي الي المزيد من التآكل والضعف.
ومن الاساليب التي طرحها بعض الاوساط العاقلة لمواجهة ظاهرة التطرف والارهاب التعامل بايجابية مع الاغلبية الساحقة من المسلمين التي لا تمارس العنف. هذا المنحي فيه قدر من الحكمة والتعقل، اذ لا يمكن الحكم علي المجموع من خلال ما تقترفه مجموعة صغيرة لا تحظي بدعم جمهور المسلمين. غير ان التشريعات الجديدة اصبحت تستهدف الاغلبية، وتحاصرها وتسلبها القدرة علي مخاطبة الجمهور بمصداقية واضحة. واذا ارادت القوي الغربية استعادة المبادرة في مجال الحرب ضد الارهاب فمطلوب منها طرح مباديء جديدة لسياسات اوضح تجاه العالمين العربي والاسلامي، واستعمال اساليب أقل اثارة واستفزازا، وليس كما تفعل حاليا الولايات المتحدة الامريكية. مطلوب منها ان تكون سياساتها اوضح ازاء قضايا الشراكة الاقتصادية والتنموية والانسانية، بالاضافة الي الشراكة الديمقراطية. وهذه القضايا محكومة، هي الاخري، بضرورة اقامة شراكة سياسية تهدف للقضاء علي الارهاب والاحتلال والاستبداد. فهذه الظواهر الثلاث مرتبطة ولا يمكن فصلها. فلا يمكن القضاء علي الارهاب الا بعد انهاء الاحتلال (الاسرائيلي لفلسطين، والامريكي للعراق)، والعمل علي انهاء الاستبداد السياسي المتعمق في العالم العربي بدعم غربي قديم. ان اغلبية المسلمين، شأنها شأن بقية الشعوب والامم، تسعي للعيش الآمن في مجالاته الامنية والسياسية والاقتصادية. لكن غياب ذلك الامن يؤدي الي ظاهرة الارهاب ونتائجها المأساوية. وبرغم مرور ثلاثة اعوام دامية علي حوادث 11 سبتمبر، ما تزال واشنطن غير قادرة علي احتواء ظاهرة الارهاب، كما انها فشلت في خلق رأي عام دولي داعم لسياساتها، ومن اسباب ذلك، استمرار دعمها الاحتلال الاسرائيلي.
بعد مرور ثلاثة اعوام علي الحوادث الارهابية التي جرت في 11 سبتمبر، ما تزال القضية تحتل موقعا متقدما في تفكير العالم، مع اختلاف عميق في اساليب منع تكرر شبيهاتها في المستقبل. هذا الاختلاف اصبح من بين عوامل فشل التعاطي معها باساليب علمية يمكن ان تحقق نتائج عملية. وجوهر الاختلاف يتصل بالجدل حول اختيار واحد من اسلوبين: مواجهة ظاهرة الارهاب بازالة اسبابها، او الدخول في حرب مفتوحة مع الظاهرة بدون السعي للقضاء علي اسبابها. ومع الموافقة الظاهرية من قبل الولايات المتحدة علي معرفة اسباب الظاهرة، فقد رفضت ادارة الرئيس بوش التعمق في الاسباب، وأصرت علي جعل الحرب ضد الارهاب عنوانا للسياسة الامريكية في السنوات الثلاث الاخيرة، علي ان تستمر بدون سقف زمني او مساحة جغرافية محددة، وجبهة مفتوحة لا تستثني احدا في العالمين العربي والاسلامي. وبعد مرور الاعوام الثلاثة التي كانت الاخطر في تاريخ العالم الحديث منذ الحرب العالمية الثانية، ها هو الرئيس بوش يعترف الاسبوع الماضي بان الحرب قد لا تنجح في القضاء علي الارهاب. وجاءت تطورات الأشهر الاخيرة لتؤكد اطروحة عدم امكان القضاء علي الارهاب بدون التصدي لاسبابه بموضوعية وحكمة. وما الحوادث الارهابية التي حدثت في روسيا، وآخرها اقتحام مدرسة واحتجاز طلابها وموظفيها، الا مؤشر علي خطورة الوضع وضرورة التعاطي معه باساليب تختلف عن الاسلوب الامريكي. لقد بادر المسلمون عموما لشجب عملية بسلان الروسية، فهي بعيدة في روحها عن الاسلام وقيمه، لانها توسع دائرة الصراع لتشمل المدنيين والاطفال، وتلصق بالاسلام سمعة سيئة. ان دعم نضال الشعب الشيشاني مطلوب في اطار دعم مبدأ اعطاء الشعوب حق تقرير مصائرها، ولكن لا يمكن دعم اعمال العنف الغوغائية التي تضرب مباديء الاسلام وتتجاوز اطره الاخلاقية والانسانية.
ليس غريبا من خلال استعراض تطورات الاعوام الثلاثة الاخيرة اكتشاف توسع دائرة العنف والعنف المضاد، خصوصا في غياب مشاريع سلمية جادة لاحتواء اسباب التأزم في العالمين العربي والاسلامي، او فتح منابر لطرح ظلاماتهم بروح منفتحة بعيدة عن التعصب وروح القتل والتخريب. ولذلك اصبح واضحا حجم المأزق الذي وقعت فيه سياسة الرئيس الامريكي وهو يواصل الحرب ضد الارهاب في كل مكان. فلا هو استطاع الحصول علي تفويض دولي لمواصلة تلك الحرب، ولا هو نجح في حسمها عسكريا في مدي زماني محدد، ولا هو قادر علي التراجع عن المواقف والسياسات التي اعتمدها منذ البداية. فأصبح الرئيس بوش محاصرا بلغته التهديدية واصراره علي الانتقام، بينما وقف العالم يتفرج علي ما يجري في العراق بدون مبالاة ، وبقيت افغانستان غير قادرة علي الانصهار في محيطها الاقليمي، واستمرت السياسة الامريكية في التخبط والبحث عن هدف جديد لتوجيه قواتها نحوه. هذا الهدف ما يزال غامضا، بينما تتكثف الجهود لخلق ظروف مؤاتية لانسحاب امريكي من العراق. هذه القضايا دخلت معترك السباق علي الرئاسة الامريكية بحيث اصبح الجدل الانتخابي متمحورا حول الحرب ضد الارهاب وكذلك حرب العراق التي أصبحت جرحا نازفا لواشنطن. ففيما يطرح الرئيس بوش الحرب ضد الارهاب عنوانا لسياسته، يطرح منافسه الديمقراطي، جون كيري موقفه الرافض للحرب قائلا : انها حرب خاطئة في المكان الخطأ وفي الزمان الخطأ ، ووعد الناخبين بانه سوف يسحب القوات الامريكية من العراق في الأشهر الاولي من رئاسته. والناخبون الامريكيون اصبحوا اليوم امام استحقاق انتخابي حساس في وقت يواجهون فيه عددا من الحقائق: فالعالم لم يصبح أكثر أمنا سواء في العراق ام في انحاء العالم، وحتي في امريكا فالأمن المتوفر نسبيا تدعمه اساليب تنتهج قمعا خطيرا للحريات العامة والحقوق المدنية، والصورة الامريكية في اذهان الناس تزداد سوادا مع تواصل الاسئلة حول اسباب كراهية العالم للولايات المتحدة، والارهاب اصبح متجذرا في مناطق كثيرة، حتي ليبدو ان الحربين الامريكيتين في افغانستان والعراق انما مهدتا للمزيد من الارهاب بدلا من القضاء عليه، والانفاق الامريكي علي الحروب والسياسات المناهضة للارهاب أثقلت كاهل الخزانة الامريكية بشكل خطير، فيما بدت العلاقات السياسية بين امريكا والعالم في أضعف حلقاتها. يضاف الي ذلك فشل القوات الامريكية والبريطانية في اكتشاف أي من اسلحة الدمار الشامل التي اتخذت ذريعة لشن الحرب، وتلكؤ المشروع الديمقراطي الذي طالما تحدث عنه البيت الابيض.
امام هذه الحقائق، يتم استعراض ملف الازمة مع الارهاب في اجواء مقلقة للمواطنين الامريكيين، خصوصا مع استمرار شبح هذا الارهاب يلاحق الجميع داخل امريكا وخارجها. فبعد ثلاثة اعوام من الملاحقة العسكرية والامنية، والسياسات التي استهدفت تجفيف المنابع المالية للمجموعات المتهمة بالارهاب، ازدادت مجموعات العنف والارهاب في العالم، وبدت مستعصية علي محاولات الاحتواء التي قامت السياسات الامريكية علي امل انجازها. ولا يبدو تنظيم القاعدة علي وشك الانتهاء والسقوط، خصوصا مع بقاء زعيمه، أسامة بن لادن، قادرا علي ادارة التنظيم وتوجيهه، وتوسيع رقعة عمله، وتغيير اساليبه بشكل مستمر، وتطوير قدرته علي المناورة والمراوغة. والاخطر من ذلك ان ظاهرة العنف السياسي والارهاب أصبحا اكثر شراسة، خصوصا مع انتشار اسلوب ذبح الرهائن بعد خطفهم، وهو تطور ادي الي مكاسب سياسية للمجموعات التي تمارسه، اذ لم تعد الحكومات الداعمة للولايات المتحدة قادرة علي تجاوز مطالب خاطفي مواطنيهم بسهولة، بل ان العديد من الحكومات التي تشارك في العراق بجانب القوات الامريكية، اصبحت مضطرة لاعلان وقف تعاونها مع القوات الامريكية في العراق. اما العراقيون فقد اصبحوا يعيشون حالة من القلق النفسي بسبب استمرار اعمال العنف في بلدهم الذي تحول الي ساحة مفتوحة للصراع بين التنظيمات المتشددة والمجموعات الارهابية من جهة والقوات الامريكية من جهة اخري. والواضح ان هؤلاء وجدوا في العراق ساحة مهيأة للمنازلات الميدانية، وهو تطور خطير فعلا بسبب محورية العراق في المنطقة. اما في افغانستان فالوضع هو الآخر لم يعد مستقرا، بل هو آخذ في المزيد من التوتر والعنف.
ثلاثة اعوام من التركيز المتواصل علي مكافحة الظاهرة الارهابية لم تنتج الحل السحري الذي كان الرئيس بوش يتوقعه. وربما اصبحت المشكلة اكثر تجذرا، وذلك نتيجة سياسات واشنطن ذات البعد الاحادي الذي يعتمد القوة اسلوبا لحسم مشكلة الارهاب. والواضح ان هذا الاسلوب لم ينجح، فهل اصبحت واشنطن مستعدة لانتهاج اساليب اخري أقل كلفة وأكثر فاعلية؟ مثل هذه الاساليب يتطلب تغييرا في ثوابت السياسة الامريكية في المنطقة، وهو امر ما يزال صقور البيت الابيض غير مستعدين للتفكير فيه فضلا عن تبنيه والبدء بتنفيذه. الناخبون الامريكيون هم اصحاب القرار في هذا الشأن، فهم القادرون علي معاقبة الرئيس بوش بعدم اعادة انتخابه عندما يتوجهون الي صناديق الاقتراع في نوفمبر المقبل. لو فعلوا ذلك بحرمان جورج بوش من دورة رئاسية ثانية، لكان علي جون كيري ان يأخذ ذلك في الاعتبار وهو يدير شؤون الولايات المتحدة بعد فترة عصيبة، بعيدا عن الرغبة في الانتقام او السعي لتصفية الحسابات في معركة غير متكافئة تؤدي الي مسلسل متصاعد من العنف والعنف المضاد، بدون ان تكون هناك نهاية لذلك.