كثيرون من الذين توقفوا بالتأمل امام الحالة التي يظهر فيها العالم العربي وكأنه عصي علي التقدم بخلاف غيره من مناطق العالم والتي هي أقل منه امكانات لصنع التقدم‏,‏ لاحظوا غيابا للنظرة الموحدة لما هي المصالح الوطنية والامن القومي بين الدولة والرأي العام فيها‏,‏ وعندئذ تكون الدولة مشغولة ببناء للسياسة الداخلية والخارجية‏,‏ لا يجد الرأي العام لنفسه سكنا فيه فيبقي في العراء بلا مأوي استراتيجي يقيه لطمات رياح الخارج‏,‏ وجمود الحال في الداخل‏.‏
فان وجود المفهوم الذي يتحقق من حوله التوافق الوطني‏,‏ هو الذي يوجد الاساس الذي تبني عليه استراتيجية وطنية للسياسة الداخلية والخارجية‏.‏

والسياسة ـ حسبما هو مستقر ومتفق عليه ـ هي حركة في اتجاهين اتجاه الحكم واتجاه الرأي العام كل منهما يعطي الاخر ويأخذ منه‏,‏ وبدون هذه الحركة المزدوجة يجف وعاء السياسة‏,‏ ويصبح النبع الذي يحيا عليه الحكم خواء ويصاب عقل الحكم بقلة العافية‏.‏
ومفهوم المصالح الحيوية والامن القومي ليس صيغة ثابتة فهو حركة تتواءم مع مايتغير من حول الدولة في مجتمع عالمي تغيرت قواعد التعامل معه‏,‏ وتغيرت حساباته هو للامن العالمي‏,‏ ومعايير تكامل دول العالم معه او كونها خارجة عليه‏,‏ كما تتواءم مع ما يتغير داخل الدولة نفسها‏,‏ من فتح نوافذ وحدود امام الرأي العام‏,‏ يطلع من خلالها علي ما يجري في العالم من تحولات ويتأثر بها‏.‏

واذا لم يحدث التوافق بين الدولة والرأي العام‏,‏ فان النظام نتيجة مؤثرات اغراء البقاء في السلطة‏,‏ وحساسيته للضغوط الخارجية قد ينجرف الي الزاوية الضيقة لمفهوم امن النظام ومصالحه‏,‏ وهو شيء مختلف تماما عن فلسفة الامن القومي‏,‏ وبذلك تصبح الدولة محاصرة فكرا وسلوكا وخيارات في دائرة ضيقة هي أمن النظام‏,‏ عصية علي التقدم الفعلي الخلاق مكشوفة امام الضغوط الخارجية طالما انها بعدت بنفسها عن مفهوم الامن القومي الحقيقي‏..‏ الذي يحمي الدولة ويحصنها‏,‏ ويصنع لها التقدم‏.‏
هذا التوافق القومي بين الدولة والرأي العام‏,‏ هو تعبير في الوقت ذاته عما يعرف بالحركة المجتمعية‏,‏ والتي تعني ان تكون الدولة وسياساتها وقراراتها تعبيرا عن اجمالي التيارات المتنوعة في المجتمع‏,‏ والتي يحفزها توافر هذا الوضع علي افراغ كل طاقاتها وراء جهود الدولة في كل مجال‏,‏ متجردة من تراكمات الكسل واللامبالاة‏,‏ وتعبئة مشاعر الانتماء والجدية‏.‏

أما تجاهل هذه الحركة المجتمعية فهو طريق الي انكسار اي مشروع للتقدم ونشر لمظاهر السلبية وعدم الاكتراث‏,‏ والشعور بالغربة الداخلية وايجاد هوة بين الدولة والرأي العام‏,‏ بلا جسور اتصال بين جانبيها‏.‏
وفي تاريخ مصرالحديث كان توافر هذه الحالة وغيابها هو الفرق بين فترات انتصار وانكسار ثورة يوليو‏52‏ ونظام حكم عبدالناصر‏.‏
فمشروع عبدالناصر انطلق منتصرا مبشرا بالامل والطموح القومي في بداياته حين كان تعبيرا عن الحركة المجتمعية لكل التيارات‏,‏ وقد تجسد هذا في الالتفاف الجماعي من الشعب المصري حول الثورة عام‏1952,‏ حين وجد الشعب امامه طليعة من الجيش خرجت من أجل الاماني الوطنية والحلم القومي‏,‏ الذي مهدت له حركة سياسية واجتماعية أدبية وجماهيرية حية وفعالية منذ اربعينيات القرن الماضي وحتي‏1952‏ وبقيت للنظام قوة دفعه لسنوات حقق فيها انتصاراته ونجح في انارة شعلة الحلم القومي في المستقبل الي ان حدث الانكسار الكبير في‏1967‏ وبدأ يتضح ان ما جري لم يكن هزيمة عسكرية لكنه انعكاس لاخفاق سياسي بدأ بفض الحركة المجتمعية وانكماش الحركة السياسية في تيار بعينه لينتهي الامر الي تحول قمة النظام الي قطبي صراع ـ الرئيس والمشير‏.‏

والخلاصة ان هذه الحركة المجتمعية هي قرين الديمقراطية التي صرف النظام النظر عنها كلية وحيث ان الديمقراطية بدورها هي برهان التوافق بين الدولة والمجتمع‏..‏ وهي ايضا اساس النظرة الموحدة بينهما علي ماهية المصالح الوطنية والامن القومي‏.‏
وفي هذا الاطار وحين ينفرد بالامر تيار واحد او حزب واحد تتجمد عملية التفاعل السياسي بين الوحدات الفاعلة داخل المجتمع‏,‏ فتنكمش بفعل عمليات تقليصها او بما يصيب التيار الواحد او الحزب الواحد من هشاشة عظامه نتيجة غياب حركة التقابل والتصادم والتلاقي والتباعد والتي تضفي علي الجميع بما فيهم الحزب الحاكم حيوية وقوة وتجدد صحيا في شرايينه وتلك طبيعة حركة الحياة السياسية السليمة‏.‏

وحين تغيب من المجتمع شرارة حركة التلاقي والتصادم هذه والتي تمثل عملية جذب للشباب يعبر فيها عن رأيه وتوجهاته فانه يبحث عن مجالات اخري يفرغ فيها طاقته ومنها مجالات سلبية يعبر من خلالها عما هو بلا معني او مضمون او قيمة طالما تم تجفيف قنواته التعددية في التعبير وتلك طبيعة الحياة وخصائص الانسان ان يحقق ذاته في الحياة من خلال التعبير الحر حتي وان اختلف مع الاخرين‏.‏
ولنا ان نلاحظ تلك الظاهرة الجماعية اللافتة للنظر من اقبال انشط وحاد وانفعالي من جموع الشباب علي الاغاني التي تردد كلاما لا معني له خاليا من الخيال ومن اثارة الحس الجمالي وافلام السينما التي كلما زادت ضحالتها ومواطن الهبوط فيها تضاعف الاقبال عليها اضف الي ذلك تراجع القراءة‏,‏ بل والاعراض عنها وظهور شباب في برامج تليفزيونية يتفاخرون بأنهم لا يقرأون

وكان قد لفت نظري مؤشر قوي ومباشر لهذا في استطلاع شامل اجرته في السنة الدراسية الماضية جريدة صوت الجامعة التي تصدرها كلية الاعلام بجامعة القاهرة والتي أقوم بالتدريس فيها وكانت اجابات الشباب تكاد تكون متفقة مع بعضها في رسم حالة من الاحباط الشامل‏,‏ تكون نتيجة تفريغ الطاقة فيما لامعني له‏.‏
وان كان واضحا ان الاجابات هي بشكل غير مباشر بمثابة اطلاق صرخة احتجاج حتي وان اتخذت لها هذا المسار السلبي بدلا من ان يكونوا ايجابيين يجعلهم يفرغون طاقتهم في مظاهر سلبية‏.‏
ان الدول التي حققت القوة والتقدم والمكانة هي التي عرفت كيف تطلق طاقات الحيوية لابنائهامن خلال استيعاب جميع التيارات في اطار الحركة المجتمعية التي تصب كلها في مجري رئيسي واحد نهرا جارفا يتدفق بمكونات القوة والتقدم‏..‏ وليس بحيرة راكدة علي قدر ما يلقي فيها من قلة الزاد وضآلته‏.‏