كثيرة هي الدراسات والأوراق التي عالجت المسألة العراقية خلال الشهور الأخيرة، وحاول واضعوها استشراف مستقبل العراق، ويجمع بين الكثير منها رؤية لهذا المستقبل مفتوحة على الاحتمالات كلها والسيناريوهات كافة. وهذا أمر مفهوم في حالة السيولة الشديدة التي يمر بها العراق، إذ تنطوي هذه الحالة على ما يدفع إلى التفاؤل وما يفضي إلى التشاؤم. ولذلك نجد ميلاً عاماً إلى رصد كل ما هو محتمل من الأفضل على الإطلاق إلى الأكثر سوءاً.
ويتساوى في هذا الميل خبراء كان بعضهم مشاركاً في عملية الإعداد لصنع القرار حتى وقت قريب، وأكاديميون بعيدون عن دوائر العملية السياسية. ولكن يثير الانتباه أن يفعل مثل ذلك خبير بارز كان يعمل حتى وقت قريب في مكتب وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد وفي مجال الاستراتيجيات المستقبلية، وهو د. توماس بارينت في دراسته المثيرة "خريطة البنتاغون الجديدة". فقد وضع عدة سيناريوهات تتراوح بين التفاؤل الشديد والتشاؤم المفرط. فالسيناريو الأفضل، أو "الخبطة الكبرى" التي يبدأ معها تحول كبير في أوضاع المنطقة، يرتبط بالنجاح في تجاوز المأزق الذي دخله العراق وبناء نظام ديمقراطي مستقر واقتصاد ينمو بسرعة ليصبح هذا البلد مناراً للحرية والتقدم في المنطقة. ولكن سيكون الوضع في الشرق الأوسط أفضل، في رأي بارينت، إذا ما اقترن التقدم في بناء العراق الجديد بحل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. أما السيناريو الأسوأ فهو تحول العراق إلى ما يسميه "ضفة غربية" للولايات المتحدة، أي وضع يشبه ما تواجهه إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة. وأسوأ ما في هذا السيناريو هو أن يجتذب العراق في هذه الحالة جماعات الإرهاب في مختلف أنحاء العالم، مما قد يؤدي إلى السيناريو الأكثر سوءاً على الإطلاق، في رأيه، وهو سيناريو "سقوط النسر الأسود" حيث تنسحب القوات الأميركية على النحو الذي حدث في الصومال. ولكن أين السناريوهات الوسطية؟ فليس مرجحاً الآن، أن يكون في العراق الجديد النموذج الذي بشر به منظرو المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية أو المثال الذي حلموا به. كما أنه ليس مرجحاً، في المقابل، أن يسقط العراق الجديد في هاوية الفوضى المستديمة أو في براثن ميليشيات تمزقه أو "تصومله". وآخر دليل على ذلك هو هزيمة التمرد الخطير الذي قاده مقتدى الصدر وانتهاء ميليشيا "جيش المهدي" معزولة في ركن صغير من المدينة المقدسة التي اختارتها ميداناً للقتال مراهنة على أن نشوب الحرب عند أبواب الصحن الحيدري مما سيدفع الشيعة جميعهم إلى الوقوف مع جيش ليس له من اسمه نصيب.
السيناريو الأرجح، وبالتالي الأكثر وزناً، هو بناء عراق جديد أكثر ديمقراطية ولكنه ليس ديمقراطياً كاملاً بشكل فوري، إذ تتقدم الممارسات الديمقراطية فيه تدريجياً مع تجاوز الآثار المدمرة التي تركها النظام السابق في المجتمع الذي كان في حال حرب أهلية كامنة لأكثر من عقد على الأقل.
فليس ثمة أساس موضوعي لتحول العراق الذي يفتقد مجتمعه إلى ثقافة ديمقراطية وتنخر فيه الضغائن والأحقاد الناجمة في معظمها عن سياسات النظام السابق صوب نظام ديمقراطي كامل يقدم نموذجاً يحتذى به بين عشية وضحاها. ولا يمكن أن يصبح من يعبرون عن خلافاتهم بالسلاح ديمقراطيين يقبلون الحل السلمي لهذه الخلافات بين يوم وليلة. ومما يثير الاستغراب، هنا، أن يبقى الأميركيون الذين عاشوا قبل الحرب في وهم تقديم نموذج عراقي مثالي أسرى الأساطير التي خلقت هذا الوهم. وفي مقدمتها أسطورة المشابهة بين العراق بعد حرب إسقاط صدام حسين وألمانيا بعد حرب القضاء على هتلر والنازية.

فقد كرر د. بارينت، في دراسته، هذه الأسطورة على نحو يثير الدهشة ويدفع إلى التساؤل عن مغزى عدم استخلاص درس العراق بعد ما يقرب من عام ونصف العام على انهيار نظامه السابق. ففي شرحه للسيناريو الأفضل أو النموذجي، تحدث عن استمرار القوات الأميركية في العراق وتعود العراقيين والعرب على وجودها مثلما حدث بالنسبة إلى الألمان في بلدهم لأكثر من ستين عاماً.

ولا تفسير لذلك إلا أن ما استخلصه د. بارينت من الدرس العراقي حتى الآن هو تقريباً عكس ما كان مفترضاً أن يستنتجه. فهو لم يدرك بعد مدى الاختلاف بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الأوروبية بتنوعاتها وبما فيها الثقافة الجرمانية في هذا المجال. فإحدى الركائز الأساسية للثقافة العربية الإسلامية، بغض النظر عن مدى الصواب أو الخطأ فيها، هو الشك العميق تجاه الغرب بسبب التاريخ الاستعماري وليس نتيجة اختلاف الدين أو العقيدة.

وبالرغم من أن بارينت يدرك جيداً، كما يظهر في دراسته، خطر بقاء الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي دون حل، فهو لا يبدو مقدراً الآثار المترتبة على القمع المنظم ضد الشعب الفلسطيني بالنسبة إلى الموقف تجاه الولايات المتحدة. فلم تعد أميركا تلقى قبولاً في العالم العربي والإسلامي، بسبب انحيازها المتزايد إلى إسرائيل. ولذلك يستحيل أن تصبح القوات الأميركية في العراق مقبولة في أي وقت أو تحت أي ظرف، وخصوصاً أنها جاءت في حرب ولم تكن مدعوة في إطار اتفاق للدفاع أو الحماية. صحيح أن النظام الذي أسقطته هذه القوات كان مكروهاً من الغالبية الساحقة من العرب. ولكن أميركا مكروهة بدورها بسبب سياستها تجاه الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ولأن النظام الذي جاءت لإسقاطه زال، لم يعد وجودها مقبولاً. وهذا ميراث ثقافي عميق لدى العرب يدعمه الوضع المتردي في فلسطين. وربما لا يستطيع الأميركيون المعنيون بالمستقبل العراقي التخطيط له تخطيطاً جاداً علمياً إلا إذا نفضوا عن أنفسهم وهم النموذج العراقي وأسطورة تكرار الدور الذي قامت به بلادهم في ألمانيا. فالفرق بين العراق وألمانيا هو فرق بين عصرين وليس فقط بين ثقافتين تنطوي كل منهما على نسق قيم مختلف أشد الاختلاف عن الأخرى.

كانت ألمانيا، قبل هزيمة نظامها الحاكم في الحرب العالمية الثانية، دولة صناعية حققت تقدماً كبيراً منذ أن لحقت بالثورة الصناعية عقب توحيدها عام 1870 وقطعت أشواطاً كبيرة وسريعة. ولذلك فلا مجال للمقارنة بين الإنسان الألماني الذي كان قد دخل العصر الصناعي من أوسع أبوابه، والإنسان العراقي الذي لم يعرف من هذا العصر إلا الصناعات سوفييتة الطابع بكل خيبتها وصناعة السلاح والذخائر لزوم خوض الحرب تلو الأخرى، والصناعات التي تخدم أعمال تطوير أسلحة الدمار الشامل.

كما أنه لا مجال للمقارنة بين الإنسان الألماني الذي مارس الديمقراطية الكاملة وانتشرت في مجتمعه ثقافة الحرية قبل أن يقفز هتلر على السلطة ليقوض النظام الديمقراطي ويقيم نظاماً فاشياً.، بل كانت الديمقراطية الألمانية التي اقترنت بثقافة شديدة التسامح هي التي سمحت لحزب غير ديمقراطي، بل معادٍ للديمقراطية، بالوصول إلى السلطة عبر انتخابات حرة نزيهة.

ولذلك كان سهلاً جداً أن يعاد بناء الديمقراطية في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فلم يخلق الأميركيون الديمقراطية في هذا البلد حينئذ، بل ساعدوا في استعادتها. فما أشد الاختلاف بين حالة ألمانيا هذه وحالة العراق الذي عاش ما يقرب من نصف قرن في ظل حكم شمولي استبدادي منها 35 عاماً في جمهورية رعب قلّ مثلها في العالم. كما أن تاريخ العراق المستقل لفترة امتدت نحو 35 عاماً أخرى لم يعرف ديمقراطية مزدهرة، وإن عرف نظاماً شبه ديمقراطي تضمن الكثير من الآليات والمؤسسات الديمقراطية والقليل جداً من الثقافة الديمقراطية.

ولذلك تبدو المشابهة بين دور أميركا في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية ودورها في العراق بعد حرب الخليج الثالثة ضرباً من الخيال السياسي. وكان لهذا الخيال دور أساسي في الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة الأميركية في عراق ما بعد صدام، والتي اعترف بها الرئيس بوش الابن في 26 أغسطس الماضي للمرة الأولى. ولكن لا يبدو أن هذا الاعتراف اقترن بإعادة قراءة الوضع في العراق واستخلاص دروس الشهور السابقة، وبالتالي تجنب الإفراط في التفاؤل الزائف بمستقبل زاهر ونموذج مثالي، والإغراق في المقابل في التشاؤم البالغ. فالميل التشاؤمي هو امتداد طبيعي للتفاؤل الزائف عندما يصطدم بالواقع ويواجه خيبة الإخفاق.

فالواقع العراقي الراهن، بكل ما فيه من توتر واضطراب نجم معظمه عن أخطاء كبرى أهمها تسريح الجيش النظامي بكامله وتفكيك أجهزة الدولة دون تمييز، مرشح لاستعادة تدريجية للأمن والاستقرار وبناء مطرد للديمقراطية والاقتصاد على مراحل. وأخطر ما في عراق اليوم هو أن حكمه ديمقراطياً يبدو صعباً. ومن هنا فإن المغزى الأهم على الإطلاق لهزيمة مليشيا مقتدى الصدر في النجف هو نجاح حكومة الدكتور إياد علاوي في أصعب اختبار واجهته منذ تشكيلها في أول يونيو الماضي. فسقوطها في هذا الاختبار لم يكن ليعني إلا استحالة حكم العراق حكماً ديمقراطياً. وهذا فضلاً عن بدء تفكك العراق، عبر استيلاء هذه المليشيا على عدة مدن جنوبية عقب إحكام سيطرتها على النجف.

ويعني ذلك سقوط العائق الرئيس أمام تقسيم العراق، وهو حرص شيعته على إبقائه موحداً لأنهم غالبية سكانه، ولأن الفرصة متاحة لهم للقيام بالدور الرئيس في حكمه للمرة الأولى. فالقسم الأكبر من الشمال ذي الغالبية الكردية كان منفصلاً من الناحية الفعلية منذ انتهاء حرب تحرير الكويت. وفي بعض مدن محافظات منطقة الوسط تسيطر ميليشيات ما يسمى "المقاومة" وعناصر جماعات متطرفة سيطرة شبه كاملة.

ويعني ذلك أن أية سيطرة ميليشاوية في الجنوب يمكن أن تكون بداية الطريق نحو تقسيم العراق. ومن هنا الأهمية الكبرى لإحباط خطة مقتدى الصدر للسيطرة على أجزاء واسعة من الجنوب بدءاً بمدينة النجف. وإذ يتوافق نجاح الحكومة المؤقتة في ذلك مع التقدم البطيء في استعادة الأمن والاستقرار والتراجع التدريجي في قدرة "المقاومة" على تنفيذ عمليات تفجير كبرى، تزداد المؤشرات التي تدعو إلى التفاؤل بخروج العراق من النفق المظلم الذي أدخل فيه ومواصلة عملية بناء نظام تكتمل ملامحه الديمقراطية مع الوقت دون أن يكون بالضرورة نموذجاً مثالياً يشار إليه بالبنان.

فالأرجح أن يكون عراق الغد أفضل بكثير من عراق الأمس، ولكن ليس ذلك النموذج الذي يشع على ما حوله، وهذا هو المهم بالنسبة إلى العراقيين أنفسهم. فكفاهم وجيرانهم والعرب كلهم معاناة "الإشعاع" المغامراتي للنظام السابق على ما حوله، وليركزوا جهدهم في بناء بلدهم... وهذا هو العراق الجديد بلا نماذج ولا أوهام ولا أساطير.