لوديف (فرنسا) ـ أنطوان جوكي: لا يمكن الاستماع إلى إلقاء جان بيار بوبييو لشعره بدون أن تستيقظ فينا أحاسيس ومشاعر لم نألفها من قبل، لدى قراءاتنا الشعرية الصامتة، وبدون أن نقتنع بأن للشعر قيمة إلقائية أكيدة. أستاذ جامعي وأحد أبرز الوجوه الفرنسية للشعر السمعي الذي هو وريث الطليعية التي انطلقت مع الدادية والمستقبلية والتزامنية (simultan?isme) وبلغت ذروتها مع صديقه برنار هايدسيك و"الشعر ـ الفعل"، معرفته العميقة والدقيقة للشعر ومواقفه الجريئة وغير المتساهلة مع كل ما هو بالٍ فيه لا تسمح للشعراء المعاصرين في فرنسا إلا أن يكونوا معه أو ضده. نظريّته الشعرية الأهم هي أن في الإنسان رغبة في الشعر (d?sir_de_po?sie) ذات طابع نفساني ولكن خاصة أنتروبولوجي، نلاحظها في مختلف عوامل سيرورة وصول الطفل إلى اللغة المنطوقة أو الرمزية. فما يربحه الطفل في عملية الترميز والتدامج الاجتماعي (socialisation)، يخسره على مستوى اللذة والجسد. ويبيّن بوبييو صحة هذه النظرية داخل مختلف الأشكال الشعرية، من الأكثر تقليداً وخضوعاً لمعايير محددة سلفاً إلى الأكثر اختباراً وحرية حيث نبلغ نصية متوحّشة نقرأ ـ أو نستمع أو نشاهد ـ داخلها الجسد كدالٍ والدال كجسدٍ. بمناسبة صدور كتابه المهم ثلاثة أبحاث حول الشعر "الحرفي" لدى دار Al Dante، الذي يُعالج فيه حلول(litt?ralit? la) في الشعر وتطوّرها انطلاقاً من رامبو وحتى هايدسيك، قابلته "المستقبل" في مهرجان لوديف الشعري حيث كانت له مشاركة مثيرة ولافتة، فكان هذا الحديث:
مثيرٌ تعريفك للشعر التقليدي كأداة لسمو الكلمة الإلهية وكقالب وحيد القياسات لكلام المجتمع المحدد سلفاً، وأنه توجّب تراجُع هذا السمو وتقدّم الذاتية الفردية لإخضاع الشعر لدوّار الالتباس والفرادة المطلقة...
ـ أهمية هذا التعريف هي في كوننا في حقبة ما بعد البنيوية، أي بعد الحقبة التي فضّلنا فيها بنيات الأشكال على حساب تاريخ الأدب وتاريخ الأشكال، ولكن خاصة على حساب ما أسميه معنى الأشكال وتاريخه. وقد تجلى هذا الأمر لي لدى عملي على مسألة نظم الشعر، وبالتحديد على المرحلة التي هوجم خلالها النظم التقليدي عند نهاية القرن التاسع عشر في فرنسا. لفترة طويلة لم نكن نعرف لماذا فجأة لم يعد كافياً لرامبو وغيره النظم التقليدي ولماذا في هذه الفترة بالذات توجّب تدمير طريقة النظم هذه بشكلٍ كامل. ما هي المآخذ التي كانت وراء هذا الموقف؟ وهل أن المسألة مجرد تحديث شكلي؟ وما هي علاقة هذه المسألة مع التاريخ، أي مع الاضطرابات التي عرفها المجتمع الغربي، والفرنسي بشكلٍ خاص، في تلك الفترة؟ جميع هذه الأمور كانت تسائلني. وقد تبيّن لي أن الهجمة المثالية التي قام بها رامبو ضد جميع مستويات الكتابة الشعرية التي ورثها لدى انطلاقه في الكتابة، كان لها أبعاد سياسية وفكرية وفلسفية واجتماعية جوهرية. وطبعاً كان يجب وضع هذه الهجمة في إطار مشروع رامبو المناهض للمسيحية. الباحث الأدبي بيار برونِل هو أوّل من تقدّم بهذه الفكرة. وينخرط مشروع رامبو في فكر "الأنوار"، أي ضمن عقلانية مكمّلة لرجالات "الأنوار"، كما يمكن تقريب الشاعر من الفيلسوف كانت لأن هذا الأخير راقب الثورة الفرنسية وأشار إلى فكرة أن 7-7-الأنوار7-7- هي عبور المجتمع من الطفولة إلى مرحلة النضوج، أي من المرحلة التي كانت البشرية فيها بحاجة إلى وصاية إلهية إلى مرحلة نضوج تخطت فيه البشرية مسألة الوصاية وبدأت بسنّ قوانينها بنفسها، وأقصد هنا الديمقراطية. وليس صدفة أن تحصل هذه الهجمة ضد النظم التقليدي خلال مرحلة "العامّية" (la Commune) وبداية الاشتراكية والفوضوية في فرنسا. فمباشرة بعد ذلك سيظهر الشعر الحر الذي يحييه الشاعر مالارمي كانبثاق الكلام الفردي والذي سيعتبره أعداؤه كمشروع فوضوي. وبالفعل، ستُنشَر أولى قصائد الشعر الحر في مجلات ذات توجّه فوضوي.
عدم تواصل
تُبيّن كيف أن الحرف، دال أوّلي (?l?mentaire) ومتغيّر الشكل، يستقل تدريجياً مهدداً بتذرية (atomisation) الأشكال والخطابات وبالذهاب إلى ابعد حد في عدم التواصل. إلى أي حد يمكننا المضي في هذه التجارب بدون أن يفقد الشعر معالمه؟
ـ إنه سؤال كبير يمكن أن نطرحه انطلاقاً من رامبو. ففي شعره غموضٍ يمكن تفسيره كقطيعة مع عملية التمثيل(la repr?sentation) . إنها الحقبة التي بدأ فن الرسم فيها بالتشكيك في قواعد التمثيل التي وُضعت خلال النهضة الأوروبية. كما أنها الحقبة التي حاول الموسيقار الفرنسي دوبوسي فيها الإفلات من طُرُق التأليف الموسيقي، وتُبيّن توجّهنا نحو موسيقى اعتُبرت في ذلك الحين مبهمة وغير مفهومة. وسيعتمد فن الرسم أيضاً آنذاك أشكالاً تتحوّل إلى موضوع نزاع. وفي الشعر، وصلنا مع الدادية إلى أقصى تخوم التجربة في قصائد ترتكز بشكلٍ كامل على الحروف. إذاً نرى بشكلٍ واضح كيف وصلنا تدريجياً إلى ذلك. ففي فترة ما، يبدو أنه كان من الضروري تاريخياً العودة بالشعر إلى عناصره الأساسية. هذا ما سيسمّيه الفنان كورت شفيتر "الشعر العنصري"، والعنصر هنا هو الحرف ولكن أيضاً الصوت أو العناصر الصوتية التي تقع خارج الألسنية كالضجة والصخب.
بعد قرن من التجارب في هذا الاتجاه، ها أنك تقدّم نفسك كشاعر ضاجّ. هل ما زلنا بحاجة إلى ما سبق وقام به رامبو ومالارمي وأبولينر؟
ـ أبولينر هو اسم مهم في هذا التاريخ. وهنا يمكننا أن نقول ما قاله الشاعر فرنسيس بونج: هنالك حاجة إلى تحرير الشعر من الماضي، لأنه ثمة نزعة دائمة إلى العودة إلى شعرية قديمة. ويمكننا مشاهدة ذلك حتى الحقبة الرومانسية. بعدها، قام بعض الشعراء بالتخلص من هذه النزعة، مما أدخلنا في عهدٍ جديد لم يعد للشعر فيه الوظيفة ذاتها. ومن البديهي أنه خلال عهد الملك لويس الرابع عشر، لم تكن وظيفة الشعر الأولى نقد المفهوم الاتصالي للخطابات. بالعكس، كان لديه وظيفة طائفية متأصلة في تعالٍ(transcendance) يبرر الحالة الاجتماعية التي كان يحصل كل شيء داخلها. وقد يتساءل البعض لماذا لم يعرف أي بلد آخر شاعراً مثل رامبو، والجواب هو لأنه كان لدينا الملك لويس الرابع عشر ولأن نظامنا كان اتحادياً وموحِّداً. إذ كنا نعيش داخل مملكة تستمد شرعيتها من حق إلهي. وحتى اليعقوبية خلال الثورة الفرنسية وبعدها أكملت منهج ملوك فرنسا: حصر السلطات في مركز واحد. وهذا يذهب في اتجاهٍ تأليهي قوي. مع الحداثة، أصبح للفرد وللأصوات المتباعدة ثقلاً أكبر وتوارى المبدأ الموحِّد. أما الممارسات الفنية فاكتسبت دوراً جديداً: رفض عودة الأساطير الموحّدة، إن كانت تقليدية أو حتى محدّثة، لأنه ثمة أساطير محدّثة على الشعر الحديث رفضها أيضاً، وأكبر مثل على ذلك معارضة تريستان تزارا مشروع بروتون في البداية.
نلاحظ بالفعل أنك تذكر في كتابك رامبو وألبر بيرو وتزارا وهاوسمان وأرطو ودوفرِن وجيراسيم لوكا وشعراء آخرين شاركوا بعبقرية في سيرورة تحرير ما هو مكبوت فينا واستخدامه كمادة شعرية بامتياز. لكنك لا تذكر السرّياليين ولا حتى مرّة واحدة على الرغم من اهتمامهم المباشر بهذه المسألة وخوضهم لتجارب متعددة في هذا الإطار...
ـ إنه سؤال كبير أعالجه بشكلٍ مبسّط في كتاب حول الشعر السمعي سيصدر قريباً وأخصص فيه فصلاً للطليعيين في فرنسا وأوروبا. فمنذ بداية عام 1922، أراد بروتون تنظيم "مؤتمر باريس" بهدف تحديد التوجّهات الحديثة. وذلك أزعج طبعاً تزارا ودفعه إلى رفض المشاركة في المؤتمر الذي لم يحصل في النهاية. إذاً انطلقت السرّيالية بهزيمة من هذا المنظار، لكنها هزيمة عابرة. وعند بداية عام 1923، دُعي تزارا من قبل كورت شفيتر إلى إلقاء سلسلة محاضرات في أوروبا بمناسبة المؤتمر الذي نظمه فون دايسبورغ الذي كان دادياً وبنائياً في الوقت ذاته. وخلال هذه المحاضرات، أكد تزارا بقوة أن الدادية ليست حديثة. وكان ذلك جواباً مباشراً على بروتون. ويعني الجواب أمراً مهماً، إذ يقصد أن الدور النقدي للشعر لا يقتصر على نقد عودة التقاليد وإنما أيضاً أقانيم الحداثة التي يمكنها أن تصبح قوانين تقيّد بدورها الشعر. يمكن تفسير هذا الفصل على ضوء سؤالك.
الأنواع
ألا يهدد هاجس تحديث أشكال الشعر بخنق هذا الأخير، خاصة وأن البعض ذهب إلى حد إعلان موته (دوني روش) أو فضّل استخدام عبارة "نص" (جان ماري غلايز)؟
ـ إنها مسألة الأنواع الشعرية التي تطرحها هنا. من المؤكد أن الموقف "الحرفي"(litt?ral) ينتقد الأنواع وحتى الشعر ذاته، أو على الأقل ما كان يُعتبر شعراً حتى وصول الشعر "الحرفي". مما يطرح السؤال من جديد: ما هو الشعر؟ مع الحرف، يمكننا بالفعل تأليف أشياء يمكنها أن تمنحنا الشعور بالإفلات من الشعر أو أن تبدو وكأنها شيء آخر. وأظن أن في ذلك موقفاً استراتيجياً واضحاً، كما لدى دوني روش مثلاً. ففي ظروف معينة، وأمام خطابات معينة، يمكننا أن نقول أننا غير مكترثين للشعر وأننا نقوم باختبارات أخرى. حتى فرنسيس بونج صرّح شيئاً من هذا القبيل. لكن في ظروف أخرى، أي حين يقال لنا بأن ما نقوم به ليس شعراً، عندها يصبح من الضروري إثبات العكس وكيف أن ما نكتبه يسائل بحيوية قصوى كامل إمكانيات الشعر. إذاً أظن أن هذا أمرٌ استراتيجي وأنه يمكننا اللعب والمراوحة بين الموقفين المذكورين وإن أدى ذلك إلى مضايقة خصومنا (يضحك).
هل تتقبل فكرة أن يكتب شاعرٌ كبير اليوم قصائد نثر أو شعراً حرّاً؟
ـ صحيح أن مالارمي أشار إلى دور قصيدة النثر والشعر الحر في إعداد شعر جديد وحاول تركيبهما (synth?tiser) أو تخطّيهما مع "رمية نرده" الشهيرة. ولكن هل أن هذين الشكلين قادران حتى اليوم على ابتكار في المعنى؟ هنالك جدل حول ذلك يتضمن سؤالاً آخر: هل من الممكن استخدام أشكالٍ شعرية أكثر قدماً مثل البحر الاسكندري؟ في البداية، يمكننا أن نقول: نعم، هذا ممكن في حال إخراج هذا الشكل من معناه التقليدي. ولكن هل هذا ممكن؟ إنه سؤال كبير، ويبدو ذلك لي صعباً جداً، إذ قلة من الشعراء في القرن العشرين استطاعت استخدامه بشكلٍ مقنع، مثل ريمون كونو. أما استخدامه جدياً فيبدو ذلك لي مستحيلاً. أما بالنسبة إلى قصيدة النثر والشعر الحر، لِمَ لا؟ إذ هنالك أيضاً نوع من اليقينية (dogmatisme) المقلوبة التي تقول بأن قصيدة النثر والشعر الحر موجودان منذ مئة عام، إذاً هما شكلان قديمَان. لقد حصل ذلك مع تقنية المُلصَق، إذ قيل لنا أنها قديمة لوجودها منذ مئة عام، إذاً ينبغي عدم استخدامها. وقد أجبتُ على ذلك أن الرسم بالألوان الزيتية مستخدم منذ مئات السنين، فهل من المعقول حرمان الرسامين منه؟ إذاً هنالك حياة الأشكال التي تدخل في زمنية يصعب حصرها، ومن المحتمل أن يكتسب شكلٌ استهلك معناه في فترة ما، معنىً جديداً. موقفي أن هذه الأسئلة لم تعد مطروحة لدخولنا في بعدٍ آخر، فقد تغيّر وسيطنا. نحن في مجتمع لم يعد يطغى عليه الكتاب، وارتكز هنا على تحليل رِجيس دوبري. هذا صحيح داخل المجتمعات الغربية ولكن أيضاً داخل المجتمعات التقليدية المجبرة على العبور مباشرة من مرحلة تقليدية إلى عصر الكمبيوتر. وهذا لا يحصل بدون صعوبات. فانطلاقاً من الفترة التي استولى فيها الشعراء على الفونوغراف والسينما والمسجّلة وكافة تقنيات الصوت والكمبيوتر، أصبحت مسألة النثر أو الشعر، قصيدة النثر أو الشعر الحر، مسألة قديمة فات زمنها. لكن ذلك لا يعني أنها لم تعد تحمل أي معنى بل أصبحت فقط ثانوية. فالحقبة الوسيطية الجديدة لا تزيل الحقبات السابقة بشكل كامل. إذ لم يُلغِ الكمبيوتر الكتاب لكنه يغيّر معنى الكتابة في المجتمع كطريقة إنتاج وتخزين ونقل للمعرفة وللمعنى الرمزي. إذاً مسألة قصيدة النثر والشعر الحر مرتبطة بالحقبة الوسيطية السابقة. يمكن طرح السؤال حولها، لكنه لم يعد مركزياً.
الشعر اليوم
تقول: "إذا كان الشعر كل شيء باستثناء ما كان عليه، إنه أيضاً كل شيء ما عدا الصمت أو الصلاة النهائية أو الفكرة الصافية"، هادفاً بذلك نقد غنائية مُسكّنة تحاول إقناعنا بشعرية بالية حول الكائن والجوهر والعدم... برأيك، في أي مكان يجب أن يقف الشعر اليوم؟
ـ بالفعل، يجب طرح هذا السؤال، خاصة وأن بعض الشعراء والأساتذة الجامعيين ما زالوا يعتبرون وجود الشعر وأشكاله والمعنى الذي يجب أن يحمله كشيء غير إشكالي. وهذا يعود إلى اعتقاد أن معنى الشعر في الحالات التقليدية السابقة لمجتمعنا ما يزال موضوعاً راهناً. لكن هذا غير صحيح، شئنا أم أبينا. أقرأ أحياناً كتباً وأبحاثاً حول الشعر يحاول أصحابها إقناعنا أو إقناع أنفسهم بأن لا شيء تغيّر في العمق أو الجوهر. فقط حصلت بعض التغييرات على المستوى الشكلي بدون المس بوضع الشعر في مجتمعاتنا. ولكن أن نأسف أو نفرح أو لا نبالي، حال الشعر تغيرت كثيراً.
يقول الشاعر جان ميشال مولبوا أنه منذ التقدّم الشكلي الكبير في فترة السبعينات، لم نعد نشاهد لدى القيّمين على الشعر الشكلي إلا تمديداً وتكراراً لأشياء تم ابتكارها سابقاً...
ـ المهم أن نعرف ماذا يقصد بالشعر الشكلي. أعتقد أنه يضع تحت عنوان الشعر الشكلي أشياء جداً متنوعة. فهنالك نوعان من "الشكلية" (formalisme). الكاتب ألان روب غريي تحدث عن ذلك بدقة فيما يتعلق بالرواية. إذ ثمة شكلية ترتكز على استعادة أشكالٍ مستهلكة لم تعد تنتج أي معنى وهي مجرد تكرار عبثي لأشكالٍ من الماضي. وداخل ما يسميه مولبوا "الغنائية الجديدة" أو النقدية نجد هذا النوع من الشكلية بقوة. كما أن هذا التقسيم بين غنائية وشكلية هو تقسيم سخيف لانعدام التضارب بين العبارتين. فثمة شكلية غنائية سيئة تعيد إحياء أشكالٍ ميتة، وهنالك شكلية غنائية جيدة نحاول داخلها ابتكار أشكالٍ يمكن أن يكون لها معنى داخل المجتمع الذي نحن فيه اليوم.
تقول: "منذ مفهوم الشاعر دو بولاي (Du Bellay) وحتى ممارسة الشاعر برنار هايدسيك للقراءة ـ الفعل، المُراد هو أمثولة ثمينة فيما يخص اللغة، ترتكز على الأفعال، أي نقد بالأفعال للغة شعرية لا تسعى إلا إلى ذاتها"...
ـ هذه المسألة موضوع جدلٍ مهم، وأنا أحب المجادلة. هنالك لغطٌ يعود إلى جملة قالها بودلير وهي أن الشعر لا يسعى إلى نفعية أو أخلاقية معينة، فطموحه هو الشعر فحسب. وسيذهب مالارمي ابعد في هذا الاتجاه بقوله أن العالم مكوّن ليفضي في كتاب. وقد استولت البنيوية على هذه الفكرة لتجعل منها الطابع المميّز للخطاب الشعري كنقيض للخطاب العادي أو النفعي. وهذا التقسيم سببه أيضاً مالارمي: من جهة الريبورتاج، ومن جهة أخرى الأدب. والمقصود بالريبورتاج هو اللغة المستخدمة كأداة نفعية. أما الأدب فيتحوّل إلى لغة مطلقة لا تطمح إلا إلى ذاتها، وبالتالي لا تسعى إلى إدراك الواقع وأحداثه أو إلى أي شيء عملي. المشكلة هو أن هذه الفكرة الخاطئة تحوّلت إلى عقيدة طاغية داخل الجامعة، خاصة بعدما اعتمدها سارتر ورومان جاكوبسون اللذان ميّزا بين نثر وشعر. أنا أعتقد بأن الشعر يمكنه، لا بل عليه التأثير على الواقع من داخله. كم من الأشخاص تشقلبت حياتهم لدى قراءتهم لشاعر ما أو لدى استماعهم لقراءة شعرية أو لمعزوفة موسيقية أو لدى مشاهدتهم لفيلم أو للوحة معينة. إذاً العمل الفني أو الشعري يسعى إلى شيء آخر خارج ذاته، يطمح إلى تغيير الواقع وترك أثر على الآخر. لقد أفلست الخطابات التي تقول بأن الأدب لا يتكلم إلا عن الأدب. من هنا ذلك اليأس الشكلي(formaliste) . أوزوب قال شيئاً مهماً: اللغة هي أفضل الأشياء وأسوأها. إنها ما يفصلنا عن الواقع ولكنها، بالتحديد، ما يسمح لنا بالتحدّث عنه وبالتأثير عليه. بدون اللغة لسنا سوى انطوائيين (autistes). باختصار، أعتقد بأن هنالك خطأ فادحاً وجوهرياً يتكرر حول وظيفة اللغة الشعرية، وبالتالي حول وظيفة اللغة ككل.
أنت من أهم المنادين بالارتداد إلى مرحلة "الحرفية" (litt?ralit?) المطلقة. ألا تعتقد أن جهد التجريد الشكلي لم يفرض ذاته في فترة ما إلا لفتح سُبُل الكتابة الشعرية بشكل كامل، أبعد من الحرف، كَون حروف الأبجدية غير شعرية بذاتها؟
ـ نعم. هذه التجارب التي قد تصدم البعض فرضت ذاتها في فترة ما للسبب الذي تذكره، تماماً كالمربع الأبيض الذي رسمه ماليفيتش أو النوتة الوحيدة والطويلة التي اختبرها يونغ في نيويورك والتي هي وراء الموسيقى المينيمالية والمكررة. إنها تجارب تُصفّي عدداً من الأقانيم وتقرّب الموسيقى من الشعر وفن الرسم. لكنها في الوقت ذاته اختبارات مؤسِّسة يمكن من خلالها بلوغ شيء آخر. أوّل من قام بها على المستوى الشعري هو ألبر بيرو في "قصائد للصراخ والرقص"، ويقلّص فيها الشعر إلى الحرف ولكن، كما يشير إليه العنوان، لا قيمة حقيقية لها شعرياً. فهي مقترحة "للصراخ والرقص" وهدفها التحرير الحيوي للجسد والصوت الذي يُعتبر تاريخياً أحد التمهيدات لسُبُل جديدة في خدمة الشعر.
كيف تشرح مسألة أن جميع التيارات الشعرية في القرن العشرين، على الرغم من تضاربها، تستند إلى رامبو ومالارمي معاً؟
ـ إنه سؤالٌ مهم. هنالك من جهة مادّية رامبو النقدية وتفكيكه الكامل للغة الشعرية الذي هو وراء سياقٍ تاريخي في الشعر الفرنسي، ومن جهة أخرى نجد سياق مالارمي المثالي. المثير هو أن رامبو لم يلتقِ أبداً مالارمي، كما أن هذا الأخير لم يفهم أبداً رامبو، إذ يطغى على مسعاه مثالية كانت الهدف الذي أراد رامبو تدميره، وبالتالي لا يمكن تقريب هذين الشاعرين من بعضهما البعض. علينا أن نكون إما مع رامبو وإما مع مالارمي. طبعاً أبسِّط الصورة قليلاً، لكنها صحيحة ولا بد من هذا التبسيط والمقابلة نظراً إلى الالتباس القائم. فجميع الشعراء المعاصرين مثلاً يضعون شعرهم في خط "ضربة نرد" مالارمي. طبعاً هذه "الضربة" لعبت دوراً محرّكاً كبيراً كنموذج يتخطى مسألية النثر والشعر. لكنها في الوقت ذاته مسعىً مثالي ونحوي رافضاً للصدفة. الصدفة هي العدو الذي يتوجّب اغتياله، وهذا ليس موقف رامبو. فالمادّية، منذ أصولها القديمة لدى الإغريق الذين قرأهم رامبو وكانوا من قواعد فكره، تبدو مرتبطة بشكلٍ حميمي بالصدفة. ونذكر منهم خاصة لوكريس. إذاً رامبو ومالارمي في اتجاهين معاكسين. وغالباً ما نمحو هذا الاختلاف. فإما ندّعي بأننا في خط مالارمي ونمحي مثاليته جاعلين منه شاعراً مادّياً، وهذا خطأ فادح، إما نستخدم مالارمي لفرض مفهومٍ مثالي راديكالي للشعر، كما فعل إيف بونفوا مثلاً. وأحياناً نغيّر معالم رامبو فنجعل منه شاعراً مثالياً وروحانياً وصوفياً في حالة وحشية، كما فعل بول كلوديل مثلاً. في جميع الأحوال، إنها مساع استيعابية مزوِّرة لحقيقة الشاعرَين معاً. ولهذا يجب أن نكون حذرين.
لا يمكن لأبولينر أن يتصوّر قصيدة بدون معنى غنائي، مأساوي أو مثير للعواطف. لكن قصائد هاوسمان ترتكز على الحرف بشكلٍ لا توفّر فيه أي إمكانية لابتكار لغة تحمل معنى...
ـ هاوسمان يضطلع بأقصى التجارب على المستوى الشعري، بينما أبولينر يستبق إعادة تشييد القصيدة انطلاقاً من هذه التجارب. ولهذا لا أعتقد أن ثمة تضارباً مطلقاً بينهما. فما أسمّيه الشعر "الحرفي" غير موجود كتيار شعري. إنه محاولة لإعادة التفكير بعددٍ من الاختبارات المختلفة، والمتناقضة أحياناً، التي حصلت وكانت محدِّدة لتطوّر الشعر في القرن العشرين. إذاً من الممكن أن تكون هذه التجارب جد متباعدة، لكن جميعها تشترك في مسألة العبور إلى الحرف. وهذا يعود بنا إلى ما قلته من قبل، أي أن الشكلية والغنائية غير متضاربين بالضرورة. فحتى في الإطار السريالي المثالي نعثر على تجارب "حرفية" صرفة.
تقول: كل الشعر، من الكلاسيكي إلى الحديث، يرتكز على توفير أماكن ممكنة لعودة ما هو مكبوت داخلنا. فالكبت هو شرط اللغة والمعنى، وعودة المكبوت هو الشرط الوحيد لبلوغ النشوة في اللغة...
ـ ما أحاول قوله هو أن الطفل، وفقاً لجاك لاكان، يبدأ أولاً باستخدام الصراخ والأصوات قبل الدخول في نطاق الدال الرمزي. وكي يصبح إنساناً عاقلاً عليه الدخول في الحلقة الرمزية للغة. ولذلك عليه التخلي عن عددٍ من الأشياء بينها تلك الأصوات التي لا معنى رمزياً لها. فرويد شرح هذا الأمر انطلاقاً من عقدة أوديب. ولكن على مستوى اللغة، ما يقوم به الطفل حين يُثغثغ (babiller) هو التعبير عن رغباته وعواطفه بلغة تقع ما دون اللغة الرمزية. فالمقرّبون منه يفهمون جيداً ما يريد قوله. وهذه الوسيلة جسدية تمنحه لذة نعثر عليها في جميع أشكال الشعر، كلاسيكية كانت أم تجريبية. ويتطلب عبور الطفل إلى اللغة المنطوقة خسارته لهذه المجموعة الاتصالية (continuum) السمعية والجسدية الممتعة. إذاً تقدّم في اتجاه اللغة الرمزية كلما اضطُّر إلى كبت لغته الجسدية الخاصة. جميع الأهل يُجبروننا ونحن أطفالاً على عدم استخدام هذه الأصوات أو إظهار لساننا ويقلّصون فينا الجزء الجسدي لصالح الجزء الرمزي. لكن هذا الأخير لا يختفي إطلاقاً بل نكبته فقط. والمكبوت فينا لا يطلب إلا شيئاً واحداً هو العودة إلى السطح، بشكلٍ أو بآخر، كالغناء أو النغم مثلاً، حين ننشد نوتة واحدة لفترة طويلة. والمثير هو أن الأديان السماوية حاربت في البداية ذلك كعودة الجسد الشيطاني. ونعثر على هذه "اللغة" المكبوتة في الشعر أيضاً، بشكل مضبوط كما يشهد عليه ترداد القافية الواحدة، أو بشكلٍ عنيف أو ممتع، كما نشاهده لدى أنطونان أرتو وجيراسيم لوقا مثلاً.