ثمة ملاحظتان أساسيتان لابد من تسجيلهما حول قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1559 المتعلق بلبنان وبالعلاقة اللبنانية ـ السورية. الملاحظة الأولى، ان هذا القرار يعتبر سابقة خطيرة من حيث التدخل المباشر للأمم المتحدة في شأن داخلي صرف لاحدى الدول المنتمية اليها، من دون ان يكون هناك اي خطر يهدد السلام العالمي، ومن دون تلقي اي شكوى من الدولة المعنية، وهو ما يتعارض مع مضمون ميثاق المنظمة الدولية نفسها والملاحظة الثانية، ان القرار لم يكن متوازناً.
وذلك لتجاهله الاسباب الموضوعية للتوتر السائد في المنطقة والذي يجعل من اللبنانيين والسوريين جميعهم اسرى وضحايا لمضاعفاته السلبية الدائمة.هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن الدولتين اللتين أعدّتا مشروع القرار وعملتا على تسويقه دولياً، وهما الولايات المتحدة وفرنسا ـ بغض النظر عن الدوافع الخاصة لكل منهما ـ لم تأخذ بعين الاعتبار الآثار البالغة السلبية التي قد يتركها هذا القرار على لبنان بخاصة، سواء بتقويض الاستقرار النسبي الذي ينعم به منذ عدة سنوات.
او باعادة طرح قضايا خلافية بين اللبنانيين كانوا قد توصلوا الى حلول توافقية لها، بانتظار تسوية الصراع القائم في المنطقة والذي يمثل الاحتلال الاسرائيلي لأراضي عدة دول عربية المحرك الرئيسي له. كما ان الدولتين المذكورتين لم تقيما وزنا للضرر الكبير الذي قد يصيب الجهود الدولية المبذولة لتحقيق تقدم على طريق التسوية السلمية المبتغاة، وهو ما سيشجع اسرائيل على زيادة تعنتها في رفض هذه الجهود واظهار تصميم اكبر على تحدي الارادة الدولية والتمادي في سياستها العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني.
وفي هذا المجال تبرز عدة مسائل مترابطة:
ـ المسألة الأولى، «مطالبة جميع القوات الأجنبية بالانسحاب من لبنان» ومع ان النص المعدّل لقرار مجلس الأمن لم يحدّد هذه القوات بالاسم، لكن من المفهوم انه يقصد القوات السورية، بعدما كان أدرج نصاً خاصاً بها في الصيغة الأولى لمشروع القرار التي لم تحظ بموافقة معظم الدول الممثلة في مجلس الأمن.
ـ المسألة الثانية: «الدعوة الى حل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها».
ـ المسألة الثالثة: «تأييد بسط سيطرة حكومة لبنان على جميع الأراضي اللبنانية».
ـ المسألة الرابعة: «الطلب الى الأمين العام للأمم المتحدة ان يقدم تقريرا الى مجلس الأمن خلال ثلاثين يوماً بشأن قيام الاطراف بتنفيذ القرار».
الوجود العسكري السوري
في المسألة الاولى لابد من الاقرار بأن القوات السورية وبرغم المآخذ على بعض ممارساتها في لبنان، لعبت دوراً كبيرا في انهاء الحرب الاهلية واعادة بناء مؤسسات الدولة، لا سيما الجيش اللبناني وأجهزة الأمن، وبالتالي توفير قدر من الامن والاستقرار سمح باستئناف مسيرة الدولة والحياة الطبيعية للمواطنين. وقد تم ذلك في اطار «اتفاق الطائف» ثم من خلال معاهدة الصداقة والتعاون المبرمة بين البلدين التي حددت اسس العلاقات بينهما في مختلف المجالات.
بيد ان ذلك لا ينفي وجود تباين في الآراء بين اللبنانيين حول استمرار الوجود العسكري السوري الذي يرافقه تدخل مباشر في الحياة السياسية اللبنانية، برغم حدوث ثلاث عمليات لاعادة انتشار هذه القوات خلال السنوات الماضية تقلص بموجبها الوجود العسكري في المدن الكبرى والمناطق الآهلة بالسكان لكنه احتفظ بكثافة ملحوظة في منطقة البقاع (شرق لبنان) وحتى الحدود اللبنانية ـ السورية.
وهذا التباين في الآراء ناشئ عن اعتقاد فريق من اللبنانيين بانقضاء الحاجة الى الوجود العسكري السوري بعدما بلغ الجيش اللبناني وضعاً من الوحدة والقوة والمنعة يسمح له بتحمل مسئوليته في حفظ امن البلاد من دون مساعدة احد. في حين يرى فريق آخر في استمرار الصراع مع اسرائيل سواء من خلال مواصلة احتلال مزارع شبعا في الجنوب اللبناني.
او مواصلة احتلال مرتفعات الجولان السورية، او بقاء المشكلة الفلسطينية من دون حل مع ما يرافقها من مخاوف تتعلق بتوطين مئات الآلوف من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، مبررات كافية للاحتفاظ بتعاون عسكري وثيق بين لبنان وسوريا، أي ببقاء قوات سورية في بعض المناطق اللبنانية الحدودية كمواجهة اية اخطار تهدد البلدين ومن الواضح ان السياسة الرسمية التي تعتمدها الحكومة اللبنانية تأخذ بوجهة النظر الثانية وذلك في اطار استراتيجية لبنانية سورية مشتركة.
ومن هنا فإن قرار مجلس الامن فيما يخص هذه المسألة بالذات، يصطدم بالموقف اللبناني الرسمي من جهة وبإرادة قسم كبير من اللبنانيين من جهة أخرى فضلا عن انه يؤدي في حال تنفيذه الى المزيد من الخلل في توازن القوى حيال اسرائيل التي تتفوق عسكرياً على نحو كاسح، بالاضافة الى النهج العدواني الذي تمارسه تجاه دول المنطقة كلها.
الى ذلك فإن ثمة مخاوف جدية من زيادة نفوذ بعض التنظيمات المتطرفة في لبنان، والتي يبرز نشاطها في منطقة الشمال وعكار على نحو خاص. ويستشهد اصحاب هذه المخاوف بالمواجهات المسلحة التي وقعت مع احد هذه التنظيمات قبل عدة سنوات في جرود «الضنية» (شمال لبنان) ما ادى الى الاستعانة بالقوات السورية.
حيث تم القضاء على المجموعات المسلحة واعتقال العديد من افرادها واحالتهم الى القضاء ولا يبدو ان المشكلة مع هذه المجموعات المتطرفة قد انتهت كليا، بل على العكس من ذلك ظهرت مؤشرات عديدة على احتمال تجددها لاسيما بعد الغزو الاميركي للعراق وتطلع الكثير من العناصر المدربة للتوجه الى هناك للمشاركة في مواجهة القوات الاميركية.
نزع سلاح الميليشيات
في المسألة الثانية يتحدث قرار مجلس الأمن عن «الميليشيات» اللبنانية وغير اللبناية ونزع سلاحها». ومن دون ان يسمي هذه الميليشيات بالاسم، فهو يقصد بالأولى المقاومة الوطنية او حزب الله، بينما يتعهد بالثانية التنظيمات الفلسطينية داخل مخيم «عين الحلوة» للاجئين الفلسطينيين القريب من مدينة صيدا الجنوبية.
فيما يتعلق بالمقاومة الوطنية، التي انحصر دورها بمواجهة اسرائيل عبر المناطق الحدودية، لم يحدث ان اطلقت عليها تسمية «ميليشيا» في اي وقت من الاوقات.
فهي مقاومة مسلحة ضد اسرائيل، وقد تمكنت من إجبار العدو الاسرائيلي على الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000، باستثناء مزارع شبعا الحدودية التي يتواصل احتلالها، من دون ان تتمكن الامم المتحدة من تغيير هذا الوضع حتى الان، ويؤكد حزب الله دائما ان بقاء المقاومة الوطنية يرتبط باستمرار الاحتلال الاسرائيلي لمزارع شبعا، فاذا زال الاحتلال ينتهي دور المقاومة، كذلك تتعرف الدولة اللبنانية حيال عناصر المقاومة المتواجدين في بعض المواقع الحدودية على اساس هذه المعادلة، حيث يقدم تنسيقا كاملا مع الجيش ومختلف الاجهزة اللبنانية في ما يتعلق بمواجهة الاعتداءات الاسرائيلية.
ان دعوة مجلس لتصفية المقاومة الوطنية ونزع سلاحها، من دون ان يتدخل لحمل اسرائيل على انهاء احتلالها لما تبقى من الاراضي اللبنانية، تمثل انحيازا واضحا لمصلحة اسرائيل، كما تعد دعوة لزج الجيش اللبناني في مواجهة مسلحة مع المقاومة الوطنية التي كان لها الفضل الاكبر في طرد الاحتلال الاسرائيلي من جنوب لبنان فضلا عما يمكن ان يستتبع ذلك من صراع اهلي داخلي،.
من دون اي مبرر على الاطلاق اذا كان مجلس الامن يريد ان يمارس دوره حقا وان يقوم بواجبه حيال السلام العالمي، يتعين عليه ان ينهي الاحتلال الاسرائيلي اولا، ثم يطالب الطرف المعتدي عليه بعد ذلك فقط، بنزع سلاحه وحصر نشاطه بالعمل السياسي.
اما في ما يخص المنظمات الفلسطينية في مخيم عين الحلوة فإن وضعها يبدو اكثر تعقيدا، مع عدم حدوث اي تقدم في مساعي التسوية السلمية بخاصة بالقضية الفلسطينية، من جهة، وظهور مؤشرات متزايدة على الرغبة الاميركية ـ الاسرائيلية في توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، من جهة اخرى، وقد عبر المبعدون الاميركيون الذين زاروا المنطقة في الآونة الاخيرة عن هذه الرغبة من دون اي مواربة.
ان احتفاظ المنظمات الفلسطينية باسلحتها «الخفيفة» داخل المخيمات فقط، تم التفاهم عليه مع السلطة اللبنانية من اجل الدفاع عن النفس في مواجهة اي عدوان اسرائيلي محتمل، ومن الطبيعي ان يبقى هذا الاحتمال قائما طالما ظلت اسرائيل ترفض تسوية القضية الفلسطينية والانسحاب من الاراضي العربية المحتلة.
هذا الوضع يحمل على الاعتقاد بأن الجيش اللبناني لن يقدم على دخول المخيمات الفلسطينية بالقوة لنزع سلاح فصائل المقاومة طالما ان هذه الفصائل تحترم تعهداتها بعدم استخدام السلاح خارج المخيمات وبعيدا عن هدفه الاساسي، واذا حدث العكس فمعنى ذلك تقديم خدمة مجانية لاسرائيل على حساب أمن لبنان واستقراره ووحدة شعبه.
في المسألة الثالثة، المتعلقة ببسط سيطرة السلطة الرسمية على جميع الاراضي اللبنانية، فإن المقصود بذلك هو نشر وحدات الجيش اللبناني على الحدود مع اسرائيل لمنع وصول رجال المقاومة الوطنية الى المناطق المواجهة لمزارع شبعا المحتلة، وبالتالي ضمان الامن للاسرائيليين في مواقعهم الراهنة.
فضلا عن ان هذه الدعوة تبدو مستغربة دون ان يرافقها تحرك دولي مماثل لحمل اسرائيل على الانسحاب من الاراضي اللبنانية المحتلة، فهي تنطوي على رغبة ضمنية بفصل المسار اللبناني عن المسار السوري، وذلك بهدف استفراد كل منهما على حدة، ذلك ان عودة الهدوء والاستقرار الى منطقة مزارع شبعا، مع بقاء الاحتلال الاسرائيلي هناك، تمثل نوعا من التسليم بالامر الواقع، ودعوة صريحة لقبول منطق التوسع الاسرائيلي القائم على القوة.
اما في المسألة الرابعة، التي تتعلق بمنح امين عام الامم المتحدة مهلة شهر لتقديم تقريرعن نتائج تحرك مجلس الامن ومدى الاستجابة لمضمون قراره فهي تعكس رغبة مسوقي القرار في ممارسة اقسى الضغوط على كل من لبنان وسوريا لحملهما على الامتثال لمشيئتهم، فهل يتوقع اصحاب هذا التحرك ان يتم فعلا تنفيذ البنود الواردة في القرار خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة، برغم خطورة وتشعب القضايا التي يطرحها؟
*الأهداف تفضحها إسرائيل
يتفق المحللون على ان هدف التحرك الأميركي ـ الفرنسي لم يكن تعزيز الديمقراطية في لبنان عبر منع تعديل دستوره، كما قيل، وانما التمهيد لإحداث تغييرات جذرية في السياسة اللبنانية من شأنها التأثير سلباً على مستقبل العلاقات بين لبنان وسوريا ودفع لبنان إلى تبديل خياراته السياسية الراهنة.
ولا تبدو إسرائيل بعيدة عن هذه التصورات، حيث سارع وزير خارجيتها سيلفان شالوم للتعبير عن قناعته بأن «لبنان سيكون الدولة الثالثة التي ستوقع معاهدة سلام مع إسرائيل، بعد ان يتحرر من النفوذ السوري ويفكك حزب الله ويعيد الأمن إلى الجنوب اللبناني»!.
وفي اعتقاد المحللين ان الأمر المطروح، على هذا النحو، يبدو مفهوماً بالنسبة للولايات المتحدة، في ضوء السياسة التي تعتمدها الإدارة الأميركية الحالية حيال الصراع العربي ـ الإسرائيلي. بيد ان التساؤلات القلقة تتركز على الموقف الفرنسي المفاجيء، وغير المفهوم، من هذه المسألة، بغض النظر عما هو معلن من ذرائع تتحدث عن «الانتصار لحرية اللبنانيين وسيادتهم».
فما الذي يدفع الآن، والآن بالذات، لمشاركة الإدارة الأميركية في طرح موضوع تصفية المقاومة الوطنية اللبنانية ونزع سلاحها، وتجديد النزاع المسلح مع فلسطينيي المخيمات، في الوقت الذي تصعد اسرائيل من اعتداءاتها على الفلسطينيين وتمضي بعيداً في توسعها الاستيطاني وترفض كل المساعي السلمية الدولية المطروحة.
لقد كانت باريس تنطلق دائماً ـ في مساعيها وتدخلاتها لدى اطراف الصراع من الايمان بضرورة تحقيق حل شامل لكل مشاكل المنطقة، لاسيما النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، ومن أجل ذلك بدا الموقف الفرنسي على الدوام الأكثر توازناً والأكثر مدعاة للتقدير والاحترام. فما الذي حمل الحكومة الفرنسية، والرئيس جاك شيراك شخصياً على تغيير هذا النهج والتحمس للعمل مع الإدارة الأميركية، برغم تناقضاتهما الناشئة عن الحرب غير الشرعية على العراق؟!
لعل من أبرز التفسيرات المتعلقة بأسباب التمسك بتمديد ولاية الرئيس اميل لحود ثلاث سنوات اضافية، قناعة الكثيرين في لبنان وسوريا بأن المرحلة المقبلة ستكون ذات خصوصية أمنية غير عادية، وهو ما يعكسه مضمون قرار مجلس الأمن الرقم 1559، بعيداً عن المحسنات اللفظية والشعارات المعروفة حول الحرية والديمقراطية والسيادة.
لقد قيل ان هدف قرار مجلس الأمن منع تعديل الدستور اللبناني، فاذا به يصبح تفكيك المقاومة الوطنية اللبنانية ونزع سلاحها والتمهيد لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
فهل هناك من يدفع باتجاه حرب أهلية جديدة في لبنان.. للانتقام من سوريا، ولاجبارها على الخضوع لإرادة الاحتلال الأميركي في العراق ومطالبه الكثيرة؟!
وهل يعقل ان تصبح فرنسا جزءاً من اللعبة الأميركية الجهنمية في المنطقة؟!
التعليقات