منذ أن أطلق وزير الأمن الإسرائيلي تساحي هنغبي التصريح الذي "حذر" فيه من أن ثمة محاولات جدية لتدمير المسجد الأقصى، وعلامات الاستفهام ترتفع حول أبعاد هذا التحذير الصادر عن وزير إسرائيلي. إذ كيف يعقل أن يحذر وزير صهيوني من مخطط لتدمير المسجد الأقصى، علماً بأن تدمير المسجد هو هدف صهيوني قديم ومستمر؟. لم يثر التصريح هذا القدر الكبير من الاهتمام الاستثنائي بسبب أهمية المسجد وموقعه المميز لدى المسلمين في العالم كله، ولكن بسبب الصيغة التي اعتمدها هنغبي لطرح هذه القضية، وبسبب التوقيت الذي جاء عشية ذكرى جريمة إحراق الأقصى في عام 1969. ذلك أنه إذا كانت إسرائيل تسعى كما هو معروف لتدمير الأقصى وبناء هيكل يهودي في مكانه وعلى أنقاضه، فلماذا يبادر وزير إسرائيلي إلى "التحذير" من احتمال تعرّض المسجد إلى التدمير؟. والتحذير ممن؟... وإلى مَن؟.
للإجابة على هذه التساؤلات لابد من الإشارة إلى أن ثمة فريقين يسعيان إلى تدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل. ولكل فريق أسبابه ودوافعه التي تتحكم في تحديد توقيت ارتكاب الجريمة. كما أن لكل فريق تطلعاته المختلفة من وراء ذلك، والتي تتحكم أيضاً في اختيار أسلوب التنفيذ. يتشكل الفريق الأول من غير اليهود، أي من المسيحيين المتصهينين الذين يشكلون في الولايات المتحدة قوة سياسية دينية ذات تأثير كبير على عملية القرار الأميركي في الشرق الأوسط. ويؤمن هذا الفريق بالعودة الثانية للمسيح، وبأن لهذه العودة شروطاً لابد من تحقيقها، وبأن الإنسان قادر على ذلك وأنه مكلف بتحقيقها. من هذه الشروط إقامة صهيون وتجميع اليهود فيها وقد تم ذلك في عام 1948. ومنها أيضاً تهويد القدس وقد تم ذلك أيضاً في عام 1967. ومنها كذلك بناء هيكل يهودي في جبل الهيكل، أي في الموقع الذي يقوم فيه المسجد الأقصى. وفي اعتقادهم أنه ما لم يتحقق ذلك ستبقى عودة المسيح مؤجلة، ولذلك فإنهم بسبب حرصهم على تعجيل عودته ليملأ الدنيا عدلاً وسلاماً لمدة ألف عام قبل نهاية الزمن، فإنهم يحرصون على التعجيل في تدمير المسجد وبناء الهيكل. لا يهمّ عندهم كيف يتمّ التهديم... ولا متى. المهم أن يتمّ ذلك بأسرع وقت وبصرف النظر عن أية حسابات سياسية. فالإرادة الإلهية التي يعتقدون أنهم مؤتمنون على أدائها لا تتأثر، ويجب ألا تتأثر بأي ردّ فعل من أي جهة كانت.

هنا تجدر الإشارة إلى أن الذي أحرق المسجد الأقصى في أغسطس 1969 لم يكن يهودياً، كان مسيحياً صهيونياً مهاجراً من أستراليا. وهو الحريق الذي أتى على 1500 متر مربع من مساحة الحرم القدسي الذي تبلغ مساحته 4400 متر مربع. ودمر فيما رمزان إسلاميان أساسيان هما: منبر عمر، فاتح القدس من البيزنطيين، ومنبر صلاح الدين محرر القدس من الصليبيين. من أجل ذلك شكل المسيحيون الصهيونيون مؤسسة أطلقوا عليها اسم"أبناء الهيكل" مهمتها إنجاز المشروع بشقيه: تدمير الأقصى وبناء الهيكل. ومن أجل ذلك أيضاً شكلوا مؤسسة دولية أخرى تدعى "السفارة المسيحية الدولية من أجل القدس" والتي انبثقت عنها مؤسسة "معبد القدس" مهمتها جمع التبرعات والمساهمات المالية والعينية لإنجاز المشروع. وقد أقامت هذه المؤسسة في القدس معهداً خاصاً باسم "باشيف اتيريت كوهانيم" أي معبد تاج الحاخاميين مهمته إعداد الكهنة الذين سيخدمون في الهيكل الثالث.

وموّلت هذه المؤسسة عملية اختيار حجارة الهيكل وصقلها وتجميعها في موقع خاص استعداداً لساعة الصفر، وساعة الصفر هي تهديم المسجد الأقصى.
وفي كتابه The Last Late Planet Earth يقول القس هول ليندسي مؤلف الكتاب وهو من كبار منظري الحركة الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة:"لم يبقَ سوى حدث واحد ليكتمل المسرح تماماً أمام دور إسرائيل في المشهد العظيم الأخير من مأساتها التاريخية وهو اعادة بناء الهيكل القديم في موقعه القديم" ولا يوجد سوى مكان واحد يمكن بناء الهيكل عليه استناداً إلى قانون موسى في جبل موريا حيث شيد الهيكلان السابقان، الهيكل الأول الذي هدّمه نبوخذ نصر الذي سبى اليهود إلى بابل، والهيكل الثاني الذي هدمه الرومان.

ونظراً لما تتمتع به هذه الحركة من نفوذ في دوائر القرار الأميركي - الكونغوس والبيت الأبيض - فقد تمكنت من استصدار قرار عن مجلس الكونغرس الأميركي (الشيوخ والنواب) في إبريل 1990، نصّ على دعوة الإدارة الأميركية إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثم القرار الثاني في عام 1995 بنقل مقرّ السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. أما اليوم، فهناك تعهد علني للمرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية جون كيري بتنفيذ قرار نقل السفارة فور تسلّمه سلطاته الرئاسية في البيت الأبيض. وفي سبتمبر2002 وقع الرئيس جورج بوش على قانون نقل السفارة الأميركية إلى تل أبيب على أن ينفذ ذلك فور عودته الثانية إلى البيت الأبيض. أما الفريق الثاني الذي يعمل على تدمير الأقصى وبناء الهيكل فيتشكل من اليهود. ومن المعروف عن ديفيد بن غوريون رئيس أول حكومة إسرائيلية قوله: لا إسرائيل من دون القدس، ولا قدس من دون الهيكل، ولا هيكل مع بقاء المسجد الأقصى.

جرت أول محاولة يهودية لتدمير المسجد في شهر أغسطس 1967 أي بعد أقل من شهرين من احتلال إسرائيل للقدس في يونيو من ذلك العام. فقد اقتحم الحرم الإبراهيمي خمسون مسلحاً يهودياً يتقدمهم حاخام الجيش الإسرائيلي شلومو غورن. وكان هذا الاقتحام المسلح أول تدنيس للحرم القدسي كما كان أول خرق يهودي لقانون "هالاشا" اليهودي الذي يحرم على اليهود دخول جبل الهيكل قبل مجيء المسيح. حاول المقتحمون يومها تدمير المسجد الأقصى ولكنهم فشلوا. وجرت المحاولة الثانية في أغسطس 1969 والتي أدت إلى عقد أول قمة إسلامية في المغرب في العام نفسه رداً على تلك الجريمة المنكرة، ومن ثم إلى إقرار الاتفاق على وضع استراتيجية إسلامية موحدة لتحرير القدس وهو ما لم يحدث حتى الآن.

وجرت المحاولة الثالثة في شهر أغسطس من 1979. فقد قامت جماعة غوش إيمونيم بتلك المحاولة التي جرى التخطيط لها (أثناء حكومة مناحيم بيغن) في مستعمرة كريات أربع التي تقع في قلب مدينة الخليل. وكان جهاز المخابرات "الشين بيت" على علم بها. وقد وضعت الجماعة مخططيْن لتدمير المسجد الأقصى. يقضي الأول بتزنير المسجد بالمتفجرات ونسفه. ولكن الخوف على ما يسميه اليهود "حائط المبكى" أدى إلى صرف النظر عن هذا المخطط. أما المخطط الثاني فهو قيام طائرة حربية يخطفها طيار عسكري بإلقاء القنابل المحرقة والمدمرة من الجو على المسجد. ولكن الخوف من أن تصيب أشلاء المسجد المتطايرة المستوطنين اليهود في القدس القديمة أدى إلى صرف النظر عن هذا المخطط أيضاً.

يختلف اليهود حول توقيت بناء الهيكل، بعضهم يعتقد أن ذلك يجب أن يتم الآن لأن الظروف مناسبة. فإسرائيل قوية والعالم الإسلامي مستضعف والولايات المتحدة تساند إسرائيل بلا حدود ودون أي تحفظ ولا سند دولياً للعالم الإسلامي. وبالتالي فإن ردود الفعل التي تترتب على تدمير الأقصى ستكون محدودة ومحصورة ومؤقتة. ويعتقد هؤلاء أن الهزيمة العربية في عام 1967 كانت مواتية جداً ولكن التردد الإسرائيلي أدى إلى ضياعها. وإن هذا التردد كان سببه عدم توقع اندحار القوات العربية بمثل هذه السرعة. إلا أن البعض الآخر من اليهود يعتقد أنه لا يجوز بناء الهيكل قبل مجيء المسيح المنتظر. وأن المسيح هو الذي سيبني الهيكل. ولذلك لا يجوز تجاوز العقيدة والقيام بمهمة ليست من مسؤوليات جيل ما قبل المسيح (قانون هالاشا). هذا الفريق هو الذي يسرب المعلومات عن محاولات الاعتداء على المسجد الأقصى، ليس دفاعاً عنه وإنما دفاعاً عن العقيدة اليهودية.

وإذا كان اليهود الإسرائيليون بقسميهم المتدين وغير المتدين يحسبون لرد الفعل الإسلامي المترتب عن تدمير المسجد الأقصى، ويخططون لاستغلال الظروف المواتية لارتكاب هذه الجريمة، فاإن المسيحيين الصهاينة لا يكترثون لهذه الحسابات، ولا يهتمون لاحتمالات رد الفعل الإسلامي. فهم يستندون إلى قاعدة إيمانية تقول إن للولايات المتحدة مهمة إلهية لابد أن تقوم بها من أجل تحقيق شروط العودة الثانية للمسيح، وإن الله أسبغ عليها من النعم ومن القوة ما يمكنها من القيام بهذه المهمة. فالقس جيري فولويل مثلاً وهو واحد من أقرب قساوسة هذه الحركة المتصهينة إلى الرئيس الأميركي جورج بوش يقول إن الله يغدق على الولايات المتحدة من نِعمه وخيراته لأنها تساعد اليهود وتدعم إسرائيل. وإن أي تردد في مواصلة هذا الدعم هو كفر بالنعمة الإلهية الأمر الذي يعرّض الولايات المتحدة إلى غضب الله. وهو ما يردده قساوسة آخرون أمثال بات روبرتسون الذي رافق الجنرال موشي دايان في دباباته عندما دخل القدس في عام 1967!.

وبالنسبة لهؤلاء فإن كل يوم هو مناسب لتدمير الأقصى وللبدء ببناء الهيكل وإنه كلما تأخر ذلك تتأخر تلقائياً عودة المسيح. ومع تأخر هذه العودة تتأخر "معركة هرمجيدون" الماحقة التي يُقتل فيها الملايين من المسلمين ومن اليهود معاً. ولا يبقى أحياء من اليهود سوى 114 ألفاً فقط يؤمنون بالمسيح ويلتحقون به، أما المسلمون أو من يتبقى منهم فيتحوّلون إلى المسيحية أيضاً وهكذا يسود السلام والعدل في العالم لمدة ألف عام. ويعني هذا الإيمان أن الحركة الصهيونية المسيحية ليست ضد المسلمين فقط ولكنها أشد لاسامية من النازية نفسها. واليهود يعرفون ذلك، ولكنهم يتعاونون معها ويعتمدون عليها باعتبارها أهم قوة مؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة. أما نقطة الفصل والتباعد فتتمثل في مرحلة العودة الثانية للمسيح حيث - وفقاً لسيناريو نهاية الزمن- يُبادُ اليهود في معركة هرمجيدون.. وكأن إسرائيل هي مجرد معسكر يتم تجميعهم فيه ليكونوا مع المسلمين وقوداً لتلك المعركة. وعلى الطريقة اليهودية الكلاسيكية فإن اليهود يحاولون أن يأخذوا من هذه الحركة الصهيونية في الوقت الحاضر أقصى ما يمكن من المكاسب المادية والمعنوية.. حتى إذا عاد المسيح ثانية، يكون لكل حادث حديث..