الدول كالأفراد، لا تستطيع أن تتخلى عن فطرتها في التمايز وفي الاختلاف. وهي كالأفراد أيضاً تتمتع بنرجسية قومية تحتل القلب من هويتها. يبدو ذلك واضحاً في ساحة الألعاب الرياضية الأولمبية ربما أكثر من أي مكان آخر.
فالفريق الرياضي أصبح عنصراً لا غنى عنه من العناصر المكوّنة لرمز الدولة، الى جانب العَلَم والنشيد والعملة والإذاعة وشركة الطيران.. من أجل ذلك فإن التنافس في الألعاب الأولمبية، كما في كل مباراة رياضية دولية أخرى، لم يعد تنافساً بين رياضيين أو بين فرق رياضية فحسب، ولكنه أصبح تنافساً بين دول.
عندما بدأت الألعاب الأولمبية في اليونان القديمة، كان الهدف تحويل ساحة التنافس بين الدول الى ساحة للتنافس بين الأفراد. في ذلك الوقت كانت اليونان تتألف من العديد من الدول الهللينية. وكانت كل مدينة دولة. وكانت في حالة حروب متواصلة ومتداخلة. حتى أن معظم الأساطير اليونانية تدور حول تلك الحروب. أهمية الألعاب الأولمبية التي بدأت في أثينا هي أنها قضت على هذا التقليد، إذ أنها نقلت التنافس الى الأفراد ما أدى الى انتشار السلام بين الدول. ولم يكن البطل الأولمبي يحصل على أكثر من غصن زيتون يكلل به جبينه.
ولكن عندما استؤنفت الألعاب الأولمبية في عام 1896 في أثينا أيضاً، ترافق ذلك مع نشوء القوميات الأوروبية ومع قيام الدولة الأمة على قاعدة ولاء الأفراد المطلق للوطن.
أدى ذلك الى تحويل التنافس بين الرياضيين الى تنافس بين الدول. وفي الحسابات الأخيرة لكل دورة ألعاب، فإن الاهتمام ينصبّ على عدد الميداليات التي حصلت عليها كل دولة.. وكلما كان العدد كبيراً كان ذلك مثيراً للمشاعر الوطنية ومحركاً لنرجسية الدولة في التمايز والتشاوف. حتى أن مراسم تتويج الفائزين بالميداليات تتركز على رفع عَلَم الدولة وعلى عزف نشيدها الوطني. أما الاهتمام بـ"شخص" الفائز فأمر موقت ثانوي وعابر..
وعلى الرغم من أن طبيعة العلاقات بين دول وشعوب العالم بدأت تشهد تغيّرات جذرية من خلال تداخل المصالح وتدفّق المعلومات وحركة رؤوس الأموال وقوافل المهاجرين الذين يكتسبون جنسيات الدول التي يهاجرون إليها.
وعلى الرغم من أن العولمة قصّرت المسافات وتجاوزت الحدود وقرّبت بين الثقافات والتقاليد، إلا أن ذلك كله لم يخفف من وطأة نرجسية الدولة الأمة على النحو الذي كان واضحاً في ملاعب أولمبياد أثينا 2004. فالسباق الى الميداليات لم يكن إنجازاً لشخص الرياضي، ولا إنجازاً رياضياً بالمطلق بقدر ما هو من أجل الدولة التي ينتمي إليها الرياضي والتي يحرص على الفوز لرفع عَلَمها على منصة التتويج.
من أجل ذلك تتنافس الدول على استقطاب نوعين من الأفراد لتمنحهم جنسيتها، ولتغدق عليهم الهبات والإكراميات بسخاء، وهما العلماء والرياضيين. ولعل الولايات المتحدة هي أكثر دول العالم قدرة على استقطاب النوعين. وعندما فازت اليونان ببطولة أوروبا بكرة القدم، عرضت جنسيتها على المدرّب الألماني للفريق. إلا أن ذلك لا يعني أن الدول الأخرى، حتى دول العالم الثالث تقصّر في القيام بمثل هذه المهمة "الوطنية". فالسودان مثلاً منحت جنسيتها للاعبة جمباز كوبية تدعى ياميل الداما خلال يومين فقط. كما منحت قطر والبحرين جنسيتيهما لثماني رياضيين من كينيا، من أشهرهم العداء ستيفن شيرنونو. فاستبدل ستيفن بسيف، واستبدل شيرنونو بشاهين!
صحيح أن اللجنة الأولمبية الدولية تعترض على هذه الظاهرة المتنامية، إلا أنها عاجزة عن وقفها، لأن الأمر يتعلق بسيادة الدولة في منح جنسيتها لمن تشاء. فالمهم في التنافس الرياضي ليس الرياضي نفسه، بل جنسية الدولة التي ينتمي إليها.
ولعل من أبرز مظاهر تسييس الرياضة بدلاً من إدخال الروح الرياضية الى السياسة، الصراع اليوناني البريطاني على هامش الألعاب الأولمبية.
فقد كانت اليونان تمنّي النفس باسترجاع مجموعة من المنحوتات الرخامية النادرة التى تعود الى عام 500 قبل الميلاد والتي فككتها بريطانيا من الأكروبولس في عام 1816 أثناء الحكم العثماني ولا تزال تحتفظ بها حتى اليوم في المتحف البريطاني. وقد أعدّ برنامج لحفل اختتام دورة الألعاب الأولمبية يتضمن عرضاً مميّزاً في متحف الأكروبولس بعد إعادة ترميمه على أمل إعادة تثبيت تلك المنحوتات في مواقعها. ولو تمّ ذلك لكانت اليونان حققت أمنية قومية عزيزة عليها. ولكن بريطانيا رفضت إعادة المنحوتات ـ كما ترفض إعادة حجر الرشيد الى مصر ـ متذرعة بأن المتحف البريطاني سوف يفقد بذلك سمعته الدولية التي تجعله كعبة لقرابة خمسة ملايين زائر سنوياً. حاولت اليونان مقايضة بريطانيا بالموافقة منذ الآن على طلبها باستضافة دورة الألعاب الأولمبية المقبلة في عام 2012، إلا أن ذلك لم يغيّر من الموقف البريطاني الرافض. فكان هذا الرفض، إضافة الى منع عدد من الرياضيين اليونانيين من الاشتراك في الدورة بعد اكتشاف تناولهم مقوّيات هرمونية ممنوعة، نكسة نغّصت على اليونان فرحتها الوطنية. فهي ما حصلت على ما كانت تطمح إليه من الميداليات.. أو من المنحوتات!