كلما اشتد سوء التفاهم حتى بين الانسان ونفسه، تذكرت ما قاله “إيليوت” كأنه يستخدم وسيلة ايضاح لشرح فكرته، يقول ان من شاهد طائرة منذ لحظة الاقلاع، يستطيع ان يحدد موقعها بين الغيوم بالعين المجردة، لكنه ما ان يحاول اشراك طرف آخر في رصد الطائرة حتى يفشل، لأن الآخر لم يشاهد الطائرة وهي تقلع.

وما قاله إيليوت عن الطائرة هو مجرد مثال مادي لتقريب مفهوم مجرد، فالأحداث السياسية ينطبق عليها هذا، لأن لها لحظة اقلاع، ومن ثم تحليق، ومن يفكرون الآن بأن الاستعمار بدأ قبل قرن او خمسة قرون لم يشاهدوا الطائرة وهي تقلع.

ومن يتعاملون مع الوقائع بدءاً من نهايتها يصعب على المرء ان يطلب منهم مشاركته في متابعة الرصد، وقد حدث بالفعل ان قرر اكاديمي عربي بأن الاستشراق مثلا بدأ قبل قرنين، ولم يخطر بباله ان عهد الاسكندر المقدوني شهد بدايات الاستشراق.
وهناك، من يظنون ان العولمة والنظام العالمي الجديد يؤرخ لهما بنهاية التسعينات من القرن الماضي، لكن الحقيقة كما يعلنها كاتب ألماني مثلا هي ان هذا النظام بدأ عشية سقوط غرناطة عام ،1492 أي قبل اكثر من خمسة قرون، والشيء ذاته ينطبق على مفهوم الحداثة.

فالبعض ممن لم يشاهدوا طائرتها وهي تقلع قالوا ان الحداثة بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، لكن مؤرخ الحداثة بامتياز وهو ماكفرلين يقول ان بيان موت الحداثة صدر في برلين عام 1815 اي قبل اقل من قرنين بقليل.
ولو احتكمنا الى التواريخ، حسب ما يحدده المؤرخون من تقاويم لاحتلال بلد، واستقلال آخر، وبداية حرب، او نهاية اخرى، فإن الخطأ الجذري في هذا الاحتكام يتلخص في ان الحروب مثلا تبدأ قبل ان تقرع طبولها بكثير. والاحتلالات لا يؤرخ لها بوصول الدبابات والطائرات الى الارض المراد احتلالها، وعلى سبيل المثال يقول المؤرخون ان بريطانيا احتلت مصر عام ،1882 والصهيونية استولت على فلسطين عام،1948 والحرب الباردة انتهت عام ،1990 وحقيقة الأمر ان احتلال مصر بدأ قبل ذلك التاريخ، ومنذ اللحظة التي تفرغ فيها دهاقنة وزارة المستعمرات لجدولة الديون الخديوية، كما ان الصهيونية شرعت في احتلال فلسطين عام 1882 ايضا، أي في العام الذي يؤرخ به لاحتلال مصر، رغم ان ما حدث عام 1882 في فلسطين، هو وصول سفينة رست على الشاطئ قبال مدينة يافا وكانت تحمل الشحنة الاولى من المستوطنين.

وقد يكون العالم الجيوبوليتكي الراحل د. جمال حمدان هو أول عربي يعطي لمقولة إيليوت بعدها السياسي، خصوصا في كتابه الشامل استراتيجية الاستعمار والتحرير. فقد وصف من يتعاملون سطحيا وآنيا مع الاحداث بمن ينظر الى سطح برج من سطح مجاور له.. فيظن انه يقف على الارض كأن الارتفاع الآخر المجاور قد اصابه بالدوار وربما بالعمى فأخطأ تقدير المسافات.

وهذا ايضا ما يفسره مؤرخ فرنسي لمن شغفوا بالتفكيك اكثر من التوصيف عندما يقول ان بعض الناس يعانون كالقطط من خلل في الشبكية فيذهبون ضحية عدم تقدير المسافات.
والقول ان التاريخ لم يبدأ البارحة، اصبح من البديهيات، رغم ان البعض ممن يشيحون عن التاريخ برمته يروق لهم الادعاء ان التاريخ لم يبدأ بعد، لأنهم يريدونه ان ينبع من اصابعهم.

واذا كان لكل ظاهرة جذر عميق، ولكل نتوء جليدي جسم غاطس وغير مرئي في المحيط. فإن احداث التاريخ هي كذلك تماما.
فالعراق مثلا احتل قبل ان يحتل، من خلال الاضعاف التدريجي والحصار المبرمج، وزعزعة الثقة بين النظام والشعب، ولم نكن بحاجة الى زرقاء يمامة عربية كي تقول لنا ان ما تراه هو جيش يقترب وليس أشجاراً تمشي.

والفارق بين مهنة التنبؤ وقراءة الأكف والفناجين والطوالع وبين الحدس المشحون بالمعرفة. هو الفارق الحاسم بين العلم والخرافة. فالمستقبل مثلا ليس رجما بالغيب، ولا هو ورقة يانصيب بانتظار من يسعده الحظ بالفوز بها، انه من الناحية الموضوعية حاصل جمع الممكنات، وهذه الممكنات هاجعة في صميم الراهن، وطيات الواقع المهمل وغير المقروء بدقة او عناية.
لهذا أرجح ان يكون سوء التفاهم بين المتساجلين ولا اقول المتحاورين العرب ناجما عن كون احد الطرفين شاهد الطائرة وهي تقلع، بينما لم يشاهدها الآخر حتى توارت بين الغيوم، وان كان قد سمع أزيزهها.

ان معظم الاطروحات المتداولة الآن، حول الاحتلال والاستقلال، والذات والآخر والعولمة والقومية، والتطرف والاعتدال، ينقصها التجذير، والعودة بها الى عناصرها الاولى، فالتاريخ له كيمياؤه ايضا، وقد ينتج عن احداث جسام حدث جديد يبدو منقطعاً عن اسبابه، تماما كما ان الماء رغم كونه مزيجا من الاوكسجين والهيدروجين لا يبدو كذلك. وان كنا نميل الى هذا التحليل وليس الى سواه، فذلك لأن ما نراه من خلاف استراتيجي حول قضايا تكتيكية وليس العكس يدفعنا الى الاعتقاد بأن هناك من يصفون جسم الطائرة لم يروها على الاطلاق!