لم اكن اعرف ان الجسد الانساني، يستطيع ان يختزن الألم، ويحوّله وما يسري في العروق. لم اكن أعرف، ان هذه البلاد، التي اسميها بلادي، قادرة علي تحمل هذا الوجع الذي يضربها في كل انحائها.
لم اتخيل، وانا اقرأ كتب التاريخ، عن المغول والفرنجة الصليبيين، عن الغزوات والهجرات، ان اجدادي، الذين شربوا من دمهم، وغرقوا في بؤسهم، كانوا حقيقيين، ويشبهونني، انا الانسان العربي، الذي فتح عينيه علي نهاية قرن وبداية قرن جديد، فلم ير سوي اشلائه واحزانه وخرابه.
كان اجدادي حقيقيين، مثلما انا حقيقي، ومروا في عتمة التاريخ، مثلما أمرّ أنا اليوم في العتمة، وأشرب الألم.
انظر حولي، فلا أري سوي الاوجاع.
حاضري موجوع، وذاكرتي موجوعة، وجسدي يؤلمني الي آخر الألم.
اقول آخر الألم كأن الألم له آخر.. الألم ايها السادة لا آخر له، انه شعور يستطيع أن يتصاعد الي ما يشاء، وعلي ان استقبله بالأنين، واعيش معه بالأنين، وانتظر انزياحه.
لكنه لا يريد ان ينزاح.
لقد استوطن الألم بلادنا، منذ متي، لا أدري.. اقول منذ النكبة، لأنني اعتدت أن أؤرخ بها نكبات العرب في الزمن المعاصر، لكن لماذا لا أعود الي ميسلون او الي ثورة العشرين او اذهب ابعد من ذلك الي عرابي، أو انزل في عتمة التاريخ، واتذكر المغول.
أسأل نفسي، كيف استطيع ان أعيش مع هذا الخراب الشامل الذي يستوطن بلادي؟
انظر فلا أري سوي الدم. دم في فلسطين، ودم في العراق، دم يستدعي دماً، وبلاد محتلة تستدعي احتلالا جديدا.
واذا نظرت الي حيث لا دم، فانني لا أجد سوي الضعة والنذالة والخراب الروحي.
صار العرب أسري نموذجيين، الغرق في الدم و/او الغرق في النذالة. ولا شيء بينهما.
منذ انتصارنا المجيد في حرب تشرين، ونحن نساق الي الدم. من حرب لبنان، الي الوحشية الاسرائيلية في فلسطين، ومن حماقات الديكتاتور العراقي في حروبه، الي الحروب التي تدمر العراق اليوم.
ننظر فلا نري نافذة.
صارت السماء غطاء تصنعه شمس نحاسية لا ترحم، وصار الهواء جدرانا تحجب الهواء.
الثقافة العربية تمتهن وتذل، الاقلام مغمسة بالنفط، والنفط يستدعي دماء الابرياء. اصوليون يدعون مقاومة الهجمة الامريكية، وامريكيون يدعون محاربة الارهاب. وبينهما لا شيء.
كأن العقل ارتاح في الموت، والموت استوطن الارادة.
ونسأل الي متي؟
مشكلتنا اننا لم نعد نعرف كيف نطرح الاسئلة، لأننا ارتضينا ان نعيش فعلا تحت اقدام الطغاة، او ان نستعير لغة القتلة الذين يحومون حول جثة البلاد التي تتقيح نفطاً.
وعي موجوع، ذاكرة تتألم.
كيف نوقف الانزلاق في الفخ الذي نقاد اليه. لم تعد المسألة مرتبطة بالانظمة السياسية، و بالجمالك المملوكية التي تتحكم بنا.
صرنا نحن الاضحية، وصارت بلادنا مهددة في وجودها، كما لم نعرف، منذ النكبة عام 1948.
أسأل أين هم؟
اين جورج انطونيوس، كي يصرخ بيقظة العرب؟ اين محمد عبده كي يدعو الي الاصلاح؟ أين الكواكبي كي يصد الاستبداد؟ اين قسطنطين زريق كي يطرح اسئلة المعني؟
أين هم؟
في المنافي والسجون والقمع والصمت.
ثقافة تصمت لانها تحت حذاء، القمع، وشعوب تموت لانها تحت مجنزرة الاحتلال.
هذا نحن، بلا زيادة ولا نقصان.
لم يعد هناك من مزيد لمستزيد، بلادنا تنتهك، وشعوبنا تداس، موت وموت. والمقاومة تحتاج الي وعي ويقظة. فمن يوقظ الجسد العربي النائم من هذا السبات؟
اشعر انني في العتمة.
التاريخ معتم، وكل ما حولي مهدد بالتداعي. وهذه الانظمة العربية الثقيلة الظل، والثقيلة الحركة، والثقيلة القرار، تجثم علي صدري، وتخنقني، ثم تسلمني للمغول، الذين يحاصرون العالم العربي من مشرقه الي مغربه.
انني في الألم.
الم يمتد ويمتد ويصل الي السماء. ألم يستطيع ان يصنع العجائب، لكنه هنـــا، في نكبة العرب، لا يصنع سوي المزيد من الألم.