يجب تقديم الشكر كله للأتراك هذه الايام، من قبل اولئك العرب الذين مازالوا يملكون شيئا من الشعور. الاتراك ذكرونا بمعنى الاخوة القومية وكيف تكون، في غضبهم للتركمان في تل عفر، وهم ذكرونا ببنوة الدم الواحد حين تثور بسبب الاعمال الامريكية الوحشية، وحين تقطب وتزمجر في وجه “الحليف”.
الاتراك وحدهم هم الذين ثاروا ونطقوا واظهروا غضبهم على الامريكان وأبدوا “ذهولهم” من مدى عنفهم الذي صبوه على تل عفر، واتصلوا بالبيت الابيض ووزارتي الخارجية والدفاع الامريكيتين مطالبين بوقف العمليات بشكل “عاجل” وبحماية المدنيين والامتناع عن استخدام قوة “غير متناسبة”، وحتى جيش الاتراك، وهو حليف تاريخي للامريكان، هب وانتفض واصدر بيانا قال فيه: انه يتابع احداث تل عفر باهتمام شديد وقلق، وطلب تصرفا امريكيايفرضه منطق الأمور.
حمية الاتراك لتركمانهم في العراق تسأل بالطبع عما يقابلها عربيا، وهو الخذلان الكامل لعرب العراق الذين يتعاظم “يتمهم” القومي هذه الايام وهم يغوصون في دمائهم وترتكب ضد مدنييهم العزل عمليات قتل جماعي لا توفرهم وهم في الشارع أو في سيارات الاسعاف أو في احيائهم المسالمة.
ليس لدى العرب حكومات وشعوبا، ما يقولونه في المذبحة العراقية الممتدة وليس لديهم اعتراض يعبرون عنه على اسلوب امريكي متبلور الملامح ومترسخ في الانتقام الدموي من شعب يرفض ان يسلم نفسه ومقاديره لهم.
سكت العرب رسميا عن كلمة واحدة تعترض على ما يحدث للعراقيين، سكتوا عن موقف كان سيكون، لو أنه حدث، اقل كثيرا من موقف الحكومة التركية لكنه كان سيرفع عنهم العتب لو هم أبدوا ملاحظة “كيفية” على ما يحدث في هذه المدينة العراقية أو تلك، أو انهم دعوا الاطراف كلها الى التزام ضبط النفس. ولكن حتى هذا لم يحدث، ولم تصدر اشارة على ان احدا “يقلق” على ما يحدث في العراق.
اذا كان للتركمان نصير علا صوته وكان غضبه باديا، فمن للعراقيين الآخرين من العرب في زمن الانتقام السبتمبري الذي لا يشبع من دمهم ومن يناصرهم. هل هو حقا الارهاب العالمي كما تقول الحكومة العراقية المؤقتة في اقناعها للحكومات العربية بهذا القول، وبأن الارهاب الدولي في العراق سينتقل منه الى المنطقة بأسرها ان لم تساعدها هذه الحكومات وتساعد الامريكان كذلك بالسكوت والموافقة على ما يحدث وتساعدها كذلك بغير السكوت؟
باسم هذا ربما، وباسم اعطاء فرصة طالت للحكومة المؤقتة يسكت العرب رسميا على مذابح العراق البشرية، لكن الصورة الادق لما يحدث هناك ليست تلك التي تروجها الحكومة العراقية المؤقتة، وانما التي وصفها هذه المرة وزير الخارجية الامريكي كولن باول في حديثه مؤخرا الى محطة “ان بي سي”. لقد قال ان “ثورة مسلحة تستعر في العراق”. هناك فرق كبير بين الارهاب الدولي وبين الثورة الشعبية المسلحة التي كان باول على حق في تشخيصها بذلك.
ولأنها ثورة شعبية شاملة فهي للامريكان “مرحلة صعبة، ونحن نعمل للسيطرة على الوضع”. الكلام لباول وله ايضا القول: “ليست المهمة مستحيلة وعندما نسيطر عليها سترون من هو الاقوى”، والحقيقة ان عبارات باول تشي بالكثير عن خطورة الوضع في العراق في العين الامريكية وعن نضوب الوسائل الامريكية في تغييره بما يتلاءم والتصور الامريكي.
وكلام باول هو اكثر من كاف لنفهم لماذا هذا اللجوء الامريكي الذي يفوق الوصف الى الوحشية في العراق، هذه الوحشية التي لاتزال اليوم وغداً تذهل العراقيين وهم الذين نالتهم الوان من العنف والوحشية الامريكية طوال سنوات.
فلنتوقع إذا شيئا اكثر من قصف الجرحى في سيارات الاسعاف ومن قتل اكثر من 25 مدنيا تجمعوا حول دبابة محترقة، لنتوقع هجمة كبيرة تمحو الفلوجة ومثيلاتها من المدن من الوجود، وذلك حتى “يسيطر” الامريكيون على الوضع وكي يظهروا الطرف الاقوى، كما يصرح باول.
العراقيون الذين يذهلهم العنف الامريكي ضدهم لا يقفون بالطبع عند حدود هذا الانذهال وهم يزدادون مقاومة، وهذا هو التباري أو التحدي الذي يحدث الآن في العراق رغم اختلاف ميزان القوة الفادح لمصلحة الامريكان. ان هذه الجدلية للمقاومة الشعبية في العراق لها ثمن رهيب من الارواح البشرية التي تحصدها الطائرات والدبابات الامريكية من اجل “السيطرة” وعدم ظهور امريكا مهزومة من شعب محدود القوى.
في ظل هذه المعادلة الدموية المخيفة يحدث صمت العرب ويستمر ويقطعه غضب الاتراك، واظهارهم لحميتهم وحتى استعدادهم لكسر حواجز علاقة الحلفاء.
التعليقات