أكمل عبد الحكيم: الشعب الأميركي، صاحب أكثر نظم الرعاية الصحية تطوراً في العالم في أزمة صحية شديدة، عندما يتعلق الأمر بفحوص الكشف المبكر عن سرطان القولون، فما بالك بالوضع في بلادنا النامية التي تترنح فيها مؤسسات الرعاية الصحية الأولية. فقبل أسبوعين، قام مركز التحكم والوقاية من الأمراض (Center for Disease Control and Prevention) ، وهو جهة حكومية أميركية يقع مقرها في مدينة "أتلانتا"، بنشر نتائج دراسة أظهرت أن 60% من الأميركيين البالغين من العمر خمسين عاماً أو أكثر، والبالغ عددهم إجمالا 42 مليون شخص، لم يخضعوا أبداً للفحص الطبي الرامي إلى الكشف المبكر عن سرطان القولون. هذا على الرغم من أن هذه الفئة العمرية، تعتبر من أعلى الفئات تعرضاً للإصابة بهذا النوع من السرطان. والدراسة التي نشرت في الدورية الطبية (Gastroenterology)، أظهرت أيضاً أن محاولة إخضاع هذا العدد الهائل لفحص القولون، سيشكل تحدياً طبياً كبيراً. فبإحصاء عدد المناظير الطبية الموجودة في الولايات المتحدة، وعدد الأطباء المتخصصين في هذا المجال، يقدر أن يحتاج الأطباء إلى عشر سنوات كاملة للانتهاء من فحص من لم يخضعوا سابقاً للفحص. ويتفاقم طول هذه الفترة الزمنية الطويلة بكل المقاييس، عندما تأخذ في الاعتبار ضرورة إعادة الفحص لمن خضعوا للفحص سابقاً، بالإضافة إلى الزيادة المتوقعة في السنوات القادمة في أعداد من تخطوا سن الخمسين.
ولكن ما هو سرطان القولون؟ ولماذا يصاب به البعض دون الآخرين؟ وكما يدل اسمه، فإن سرطان القولون هو مرض خبيث يصيب الأمعاء الغليظة، أو الجزء الأخير من الجهاز الهضمي. ويحتل سرطان القولون المرتبة الثالثة في قائمة أكثر الأمراض الخبيثة انتشاراً على الإطلاق. حيث يصيب حوالي 140 ألف شخص سنوياً في الولايات المتحدة، يلقى 55 ألفاً منهم حتفهم. وفي بريطانيا يتم تشخيص 33 ألف حالة إصابة جديدة بسرطان القولون سنوياً. وبوجه عام يصل احتمال الإصابة بسرطان القولون إلى 6% عبر مراحل العمر المختلفة، ويصيب الرجال بنسبة أعلى إلى حد ما مقارنة بالنساء. وتزداد احتمالات الإصابة بسرطان القولون مع التقدم في العمر، حيث تبدأ في الزيادة بعد سن الأربعين، ثم تشهد زيادة ملحوظة جداً بعد تخطي سن الخامسة والخمسين. والغريب أن معدلات الإصابة بسرطان القولون، تختلف اختلافاً بيناً بين مناطق العالم المختلفة. فمثلا في الولايات المتحدة تصل معدلات الإصابة إلى 14 إصابة بين كل 100 ألف شخص، وتزداد تلك المعدلات في استراليا والدول الأوروبية، لتصل مثلا إلى 30 إصابة بين كل 100 ألف شخص في جمهورية التشيك. بينما في آسيا ودول أميركا اللاتينية، تنخفض تلك المعدلات إلى ثلاث إصابات فقط بين كل 100 ألف شخص. والغريب أن سكان المناطق التي تعتبر معدلات الإصابة فيها منخفضة (آسيا وأميركا الجنوبية)، تزداد معدلات الإصابة بينهم بشكل هائل عند هجرتهم إلى المناطق التي ترتفع معدلات الإصابة بين سكانها (أميركا الشمالية وأوروبا وأستراليا). وهذه الحقيقة تظهر أن احتمالات الإصابة بسرطان القولون، تعتمد إلى حد كبير على عوامل بيئية غذائية، تختلف باختلاف المناطق الجغرافية من العالم، وتزيد من احتمالات الإصابة عند الانتقال من منطقة إلى أخرى.
هذه العوامل البيئية تقع ضمن نطاق ما يعرف بعوامل الخطر، وهي العوامل التي يزيد وجودها من احتمالات الإصابة بالمرض. فمثلا يرد البعض الاختلاف في احتمالات الإصابة بين المناطق الجغرافية المختلفة إلى نوعية الغذاء ومقدار الحركة اليومية. حيث أشارت بعض الدراسات إلى أن الغذاء الغني بالفواكه والخضروات الطازجة، والمحدود في كمية اللحوم الحمراء، يقلل من احتمالات الإصابة. وفي نفس الوقت ترتفع احتمالات الإصابة مع انخفاض مقدار الحركة والنشاط البدني وانعدام التمارين الرياضية. وترفع أيضاً السمنة المفرطة، أو تناول كميات كبيرة من الكحوليات ومن السكريات المكررة من احتمالات الإصابة بسرطان القولون. وبالإضافة إلى العوامل البيئية تلك، تلعب الوراثة دوراً محورياً في احتمالات الإصابة بسرطان القولون. حيث تزداد تلك الاحتمالات مع وجود تاريخ سابق لإصابة أحد الأقارب بهذا المرض. وفي حالة إصابة الشخص بمرض وراثي معين، الزوائد اللحمية في العائلات "Familial Adenomatous Polyposis" يصل خطر الإصابة بسرطان القولون إلى نسبة 100% قبل بلوغ الشخص سن الأربعين، إن لم يتم علاج المرض الوراثي في مرحلة مبكرة. وتوجد بعض الأمراض الأخرى مثل التهابات القولون التقرحية، والتي يمكن أن تزيد من احتمالات الإصابة بسرطان القولون بنسبة 30%. أما آخر عوامل الخطر تلك، وربما أغربها أيضاً، فهو التدخين. حيث تشير الدراسات إلى أن احتمالات وفيات المدخنين بسرطان القولون، هي أعلى بكثير مقارنة بغير المدخنين!
إدراك أهمية عوامل الخطر تلك، يجعل من الممكن تجنب الإصابة بسرطان القولون إلى حد كبير. من خلال الاعتماد على غذاء غني بالفواكه والخضروات الطازجة، ومن خلال زيادة مقدار النشاط البدني وممارسة بعض التمارين اليومية، ومن خلال الإقلال أو الامتناع التام عن التدخين. ولكن إذا ما كنت تتمتع بأحد عوامل الخطر الأخرى، مثل التاريخ العائلي أو الإصابة بمرض الزوائد اللحمية، وخصوصاً إذا ما كنت قد تخطيت سن الخمسين، فيجب عليك حينها توخي الحرص إلى حد كبير، والالتزام بالمتابعة المستمرة مع طبيب متخصص. وبوجه عام يتم الكشف المبكر أو المسح "Screening" لسرطان القولون عن طريق اختبار بسيط، يبحث عن وجود آثار نزيف في البراز، وهي إذا ما وجدت فسيتطلب الأمر وقتها المزيد من الفحوص. ويعتبر منظار القولون هو الفيصل النهائي في تشخيص سرطان القولون، ولكن كونه إجراء مكلفاً ومعقداً إلى حد ما، يجعل استخدامه محدداً في الحالات التي ظهرت آثار دم في برازها أو تلك التي تتمتع بعوامل خطر وراثية. هذا الأسلوب في قصر استخدام منظار القولون على حالات معينة، هو ما يأمل الباحثون في الولايات المتحدة في تطبيقه للتمكن من فحص الملايين ممن يستوجب فحصهم. في هذه الاستراتيجية يتم فحص البراز أولا، ثم يقصر الفحص بمنظار القولون على من وجدت ببرازهم عينات دم، وهو ما من شأنه أن ينجز فحص الخمسة وأربعين مليوناً سابقي الذكر خلال عام واحد. وهو أيضاً ما من شأنه أن يقلل من إخضاع المرضى لإجراء طبي مكلف ومعقد مثل منظار القولون، إذا لم يكونوا في حاجة إليه. هذه الفحوص لا تقي من الإصابة، بل تعمل فقط على محاولة العثور على المرض مبكراً، قبل أن يستفحل وينتشر ويستعصي علاجه. ولكن تلك الفحوص، البسيط منها والمعقد، لا تغني عن إجراءات الوقاية وخصوصاً تلك المتعلقة بالغذاء والنشاط اليومي. وخاصة أن تلك النصائح لن تقي فقط من سرطان القولون وإصابة بقية أعضاء الجهاز الهضمي، بل تشكل أيضاً خط دفاع مهماً على صعيد الوقاية من أمراض الشرايين، وما ينتج عنها من ذبحة صدرية أو سكتة دماغية وغيرها.