حينما تكف السفن عن الابحار تنقطع الفلك القادمة من المرافئ الأخري‏..‏ وتصبح الأرصفة المهجورة نهبا لأعشاب البحر ومخلفات النوارس وما تطرحه أمواج المد من بقايا السفن الغارقة‏!‏ وتنعزل المرافئ في حين يدير أصحابها ظهورهم للبحر وينكفئون علي الداخل غارقين أو مستغرقين في هموم اليابسة‏..‏ فيصبح البحر فاصلا عازلا بعد أن تهيأ لأن يكون جسرا وهمزة وصل‏!‏
وهذا فيما أظن هو ما صار عليه حالنا‏.‏ وضمير الجمع هنا يعني المصريين ـ حين افتتحوا القرن الحادي والعشرين بحال يخالف تماما ما افتتحوا به القرن العشرين منذ نيف ومائة عام‏.‏
نحن اليوم دون أي جنوح للمبالغة أو الإغراق في النبرة التشاؤمية واستمراء جلد الذات لا نختلف عن هؤلاء الذين هجروا مرافئهم وفكوا حبال مراكبهم التي تنتظر لتبحربهم إلي العالم المختلف الذي لم يروه ولم ينتموا إليه حقيقة إلا باستخدام نفس التقويم الزمني الروزنامة لا أكثر‏..‏ فجرفتها الأمواج بعيدا وانقطعت سبل الإبحار وقد ازوردا لداخل ما تقوقعوا فيه ورسموا علي وجوههم بل وعلي وجوه أطفالهم جهامة الرفض والاكتفاء وعبوس الرهبنة في معابد الاستغناء حيث انغرست في النفوس سخائم الخوف من الآخر وضلالات تلك المؤامرة التي دبرت بليل للفتك بالأصول والجذور واجتثاث الخصوصية‏.‏
وفي غمرة الدفاع العصابي عن حالة العجز روجنا لأنفسنا مقولة التمسك بالثوابت ورددنا الكلمة الاصطلاح حتي أصبحت علي الألسن وأسنة الأقلام هي الموضة الرائجة لهذه الفترة‏,‏ ففي كل المجالات يرفع الجميع شعار اللامساس بالثوابت وتحت الشعار مورست كل اشكال التنكيل والإرهاب الفكري وكل صنوف الابتزاز والترويع‏!‏ وأصبح تجاوز الثوابت أو تجاهلها أو حتي مناقشتها بعضا من الهرطقة أو الزندقة‏!‏ ولم يقتصر الأمر علي جانب واحد من جوانب المناخ الثقافي والسياسي‏..‏ بل أصبحت لازمة تتكرر في كل مجال فهناك ثوابت في السياسة وثوابت في الاقتصاد وثوابت في الفقه الديني‏..‏ وحتي في البحث العلمي والأكاديمي‏!‏
ويفترض في الثوابت وفقا لمعني المصطلح أنها قواعد سبق الاتفاق عليها بين الجميع‏..‏ وهو الأمر المستحيل نظريا وغير القابل للتطبيق عمليا‏..‏ وربما كانت العقائد الدينية المرتبطة بالنص هي الاستثناء الوحيد من نسبية الثبوت فالفقه نفسه في حقيقته تفسيرات واجتهادات الفقهاء فيه جانب الثبات‏(‏ ذلك الجانب المتصل بالنص والعقيدة‏)‏ وجنب التغير والنسبية باعتبار الفقه نفسه إنتاجا فكريا يعبر عن حالة تغير تتبع في اطراد تغيرات الحياة‏..‏ فما بالنا وفي السياسة والاقتصاد والعلوم والآداب والفنون لا توجد قداسة نص ولا وجدانية اعتقاد؟ وحين يكثر الحديث في السياسة مثلا عن ثوابتنا لا نلتفت إلي حقيقة منطقية تؤكد أن تلك الثوابت مرهونة بمرحلة ما وظروف معينة قد تتغير الأمور بعدها إلي مرحلة أخري وظروف مغايرة لها ثوابت مختلفة‏..‏ وحين تزمن ثوابت مرحلة ما وتتقادم فإنها تتحول بالضرورة إلي قواعد جامدة قد تشكل الحركة وتحول دون مسايرة التطور الطبيعي‏,‏ لأن الحياة في مجتمع ما ـ مثل حياة الفرد وحده ـ هي حالة تغير مستمر وبالتالي فإن الجمود يعني بنفس المنطق نوعا من التخلف عن ركب التقدم‏!‏ وتلك هي المآساة التي تتكرر بشكل يدعو إلي الحزن حقا وتراكم من مخلفات الأوهام والأفكار الرديئة والعقائد المتهافتة مما أشار إليه في مقال قريب الدكتور فوزي فهمي في مقاله القيم وأسماها بحق بالكراكيب‏!‏
عكفنا علي تكديس كراكيبنا وأعطينا ظهورنا لعالم يتغير كل ثانية بعكس ما فعلناه في بدايات القرن الماضي حين أطلقنا بشارات التنوير والتقدم وانفتحنا بعقولنا عبر البحر نستلهم ما حققه بناة الحضارة آملين في أن نستطيع اللحاق بهم وتعويض المسافة الفادحة التي تفصلنا عنهم حقا‏,‏ كان روادنا ورسل التفكير الحر يدركون بواقعية صارمة أن البون شاسع والهوة الثقافية‏culturaLake‏ أفدح من أن يعبرها قارب التطور الهادئ وكانوا يدركون أيضا أن مهمتهم هي إزاحة الركام بجرافات تمهد الطريق لثورة فكرية حقيقة‏.‏ وإن قدرهم وضعهم علي خط البداية ولم يكن هناك مايدعو لليأس لأن الأفق أمامهم يحمل بشارات حقيقية ليس أقلها الاندفاع النهم نحو مناهل الثقافة والفكر بمدارسه العديدة والحرص علي متابعة كل النزاعات الفنية والفلسفية التي ولدت في القرن التاسع عشر وانداح وهجها وتأثيراتها إلي القرن الجديد‏..‏ كما في مرافئنا وقتها نولي وجوهنا عبر البحر إلي الشطآن البعيدة في لهفة التوق إلي الانعتاق من رقبة التخلف والسبات الطويل الذي ادخلنا كهفه القرون العثمانية الخمسة‏..‏ وكنا ننظر إلي الشمال ونري في المتوسط جسرا للحضارة علينا أن نعبره ونعد له سفننا‏:‏ رغبتنا العارمة في اللحاق بالنور البارق عن بعد‏..‏ واستعدادنا المتلهف للتحاور مع الثقافات الأخري‏..‏ وتزامنت تلك الارهاصات مع انبعاث روح المقاومة الوطنية من أجل الاستقلال والحرية متمثلة في الثورة المصرية‏1919‏ والتي أسفرت ضمن ما حققته علي صعيد السياسة عن توهج النزوع الليبرالي‏..‏ ثم الاتجاه إلي العقلانية‏Rationalism‏ وتقديس حرية الفكر وتدعيمها في مواجهة النزعات السلفية والدجماطيقية وبدا الأمر كأنما ألقيت بذور التنوير والحركة النهضوية في أرض خصبة تم حرثها وتقليبها وإعداد لتقبل البذار ولتتدفق في قنواتها مياه النيل محملة بتلك الخصوبة القادمة من هناك عند المنابع في أوغندا ومنحدرات الهضبة الإثيوبية‏..‏ تمثل درسا يجب اعتباره بمثابة الرمز‏..‏ ويشير إلي أن أقدار مصر مرهونة دائما بالاتصال ومواكبة رحلة النهر من الجنوب إلي الشمال ولذا كانت وقفتنا علي مرافئنا القديمة وقفة صحيحة‏..‏ ولكنها فيما يبدو كانت تحتاج إلي جهد تأسيسي مواز يحول الإرهاصات والبشائر إلي تيارات مادية فاعلة تتماهي مع اتجاهات الحركة السياسية المنشغلة بقضايا السياسة المباشرة المطروحة علي الساحة مثل قضية الجلاء وقضية السودان والصراع المحتدم بين حزب الأغلبية والسراي حول نوع الملكية المطلوبة لمصر يراها الملك ملكية استبدادية مطلقة‏,‏ ويراها حزب الوفد ملكية دستورية‏.‏ الملك فيها مجرد رمز يملك ولا يحكم‏.‏ وقد أدي الانفصال بين قضية النهضة وحركة التنوير وبين الحركة الوطنية الشعبية إلي عزلة مريرة لطبقة الانتلجنيا المصرية‏..‏ وشريحتها التي تحمل لواء التنوير‏,‏ وكان عما يلفت النظر ويسبب قدرا لابأس به من الحيرة والبلبلة‏..‏ هو التصاق صفة الثقافة النهضوية والتنويرية بفصيل سياسي معزول عن الجماهير والتيارات الفاعلة في طبقاتها الدنيا والوسطي‏..‏ أو كذلك بدا رجال من أمثال لطفي السيد وطه حسين‏(‏ قبل أن ينضم للوفد‏)‏ وعدلي يكن وعبدالخالق ثروت وغيرهم من زعماء احزاب الأقلية‏(‏ أهمها حزب الأمة وحزب الأحرار الدستوريين الذي كونه المنشقون عن الوفد المصري من طبقة الارستقراطية الاقطاعية‏).‏
وقد أدت هذه الانعزالات والانقسامات علي مستوي الحركة التنويرية‏..‏ وعلي مستوي تطور الليبرالية السياسية أيضا إلي إصابة التجربة كلها بالضمور والعجز عن الاستمرار والتطور فوقعت فريسة للأمراض الفولكلورية إياها التي تصيب قوي التحرر والاستقلال مباشرة بعد خطوات البداية‏..‏ مثل الانصراف عن الأهداف الأساسية والانخراط في صراعات حزبية تتصل بالمصالح الشخصية لتقود الأمة بأسرها إلي عنق زجاجة تختنق فيه الليبرالية بكل اجنحتها السياسية والفكرية والاقتصادية وتؤدي بنا عبر خمسين عاما يسودها التقلب وتخمد خلالها تأثيرات البداية الفتية‏..‏ لنجد أنفسنا الآن في الوضع المقلوب‏,‏ ظهورنا للبحر ووجوهنا للداخل‏..‏ نخال جمودنا وارتهاننا لماضوية تعسة نوعا من التمسك بالثوابت ولاشك أن الكلمة صحيحة في معناها الحرفي‏.‏
فنحن ثابتون مثبتون لا نتحرك‏!‏ وكيف نستطيع الحركة ونحن نسير عكس الاتجاه؟ يدهمنا طوفان القرن الحادي والعشرين وهو لا يختلف كثيرا عن تسونامي الذي دهم البلدان التعسة في جنوب شرق آسيا‏..‏ وبين أمواج ثورة الجينات والهندسة الوراثية والفيمتوثانية والاستنساخ من الخلية البشرية والحيوانية‏..‏ نشهق ونقفز بحثا عن أنفاس نلتقطها وحين نجدها لا نفعل أكثر من الصراخ والاستغاثة أن أدركونا أنقذونا من بعبع العولمة‏..‏ أرحمونا من المؤامرة الكونية التي يديرها الغرب لاستلاب أرواحنا واجتثاث جذورنا‏!!‏
ويبقي السؤال الثابت المكرور‏:‏ وماهو الحل؟
سيدلي كل من يريد المشاركة بدلوه ويقدم اجتهاده وحسنا يفعل الجميع لكن البديهة ـ في رأيي ـ تقول إن علينا أن نعتدل‏:‏ أن نعود إلي المرافئ المهجورة التي خيمت عليها أحزان اليباب بعد إذ تركناها لسكني الخفافيش والغربان ونوارس البحر‏..‏ ونول وجوهنا إلي الشمال مرة أخري حيث نري البحر وصلا وجسرا‏..‏ ولا خوف من مخاطر التحول‏..‏ أعني ثمن الاعتدال الذي يجب علينا أن ندفعه بطيب خاطر وأقسي مافيه انه سيعرضنا للاتهامات المعلبة القديمة‏:‏ الاستلاب الثقافي انبهارا بالآخر والاستغراب أي عقد صفقة فاوستية مع مفيستوفليس الممثل في التسيد الغربي‏,‏ وافتقاد الهوية‏,‏ والتخلي عن الجذور‏..‏ وكل هذا الركام الذي تخلف عن كل الانهيارات التي طمرتنا تحتها والذي استعير له اصطلاح الدكتور فهمي وإن كان لا يقصد به ما قصدت عن الكراكيب أكرر مرة ثانية أنه مقابل زهيد لا نتردد في دفعه في سبيل أن نتخلص من سلاسل الثوابت الوهمية ونحرر أقدامنا ونفتح صدورنا لتلك الرياح القادمة إلي المرافئ لتعيد إليها الحياة‏..‏ فتعمر بصفارات الرحيل والوصول‏..‏ وتتحرك الدماء في أوصال الوطن لتدفعه إلي أحضان مستقبل تحميه النهضة والاستنارة‏.‏