رحيل الدكتور هشام شرابي المفكر العربي الفلسطيني خسارة كبيرة للثقافة والفكر العربي المعاصر بعامة ولحركة التنوير والعقلانية والليبرالية الفكرية والسياسية العربية المعاصرة بخاصة. فقد كان الفقيد ممثلا رئيسيا للعقلانية والتنوير والحرية الفكرية على مدى سنوات طويلة من حياته الاكاديمية والعملية في الوطن العربي وفي المهجر الاميركي.
كانت حياة شرابي حافلة بالسجالات السياسية والفكرية العميقة حيث انتمى مبكرا الى الحزب السوري القومي الاجتماعي وتأثر كثيرا بأفكار الزعيم انطون سعادة وظل من اقرب المقربين اليه وان كان ما لبث ان انسحب من عضوية الحزب قبل اعدام سعادة بقليل. وبين الرجلين مراسلات مهمة تسجل لتلك المرحلة الدقيقة من التاريخ العربي المعاصر سياسيا وفكريا وايديولوجيا. ولعل هذا ما يحتاج من الباحثين الجادين الى وقفة متأنية لاستجلائه وتحليله بعمق.
ولا اظن ان وقفة عجلى كهذه في ايام رحيله الاولى تمكننا من الغوص في منجزات شرابي الفكرية ودوره التنويري ولكنها اشارات سريعة الى هذا الدور الذي نرى انه فاق كثيرا حجم مؤلفاته وبحوثه العلمية فقد اتضح في تلاميذه الكثر من خريجي الجامعات اللبنانية والاميركية والذين زاملوه وعايشوه.
وقد انتبه شرابي مبكرا الى ازمة المثقفين العرب وصلتهم الملتبسة بالغرب وبتراثهم كما اهتم بدراسة المجتمع العربي وخص البنية البطريركية (النظام الابوي) للمجتمع العربي بدراسة معمقة مثلما اعطى اراء بحثية مهمة في (النقد الحضاري للمجتمع العربي) وهذه هي اهم كتبه التي نشرها على حد علمنا. غير ان سيرته الذاتية اعطاها اسم (الجمر والرماد) تشكل رؤية متكاملة ونظرة واقعية ناقدة لما آل اليه المجتمع العربي المعاصر على مدى سنوات طويلة من حياة الفقيد. وقد اذاع فيها الكثير من الاعترافات التي تدل على جرأته وتعكس احساسه العميق بدور المثقف في حياة شعبه وأمته.
وقد ظلت قضايا أمته همه المؤرق حتى اللحظة الاخيرة من حياته التي شهدت في السنوات الاخيرة معاناة قاسية مع ذلك المرض العضال.
لقد تعب هشام شرابي من رحلة الغربة الممتدة الفياضة بالألم والمعاناة وهذا الذي دفعه الى العودة مؤخرا للاقامة في لبنان ليظل قريبا في مثواه الاخير من يافا الجميلة التي ولد فيها عام 1927 والتي حال كابوس الاحتلال دون عودته الى ماضيه وذكرياته فيها.
لقد رحل هشام شرابي وهو يحلم بالحرية الكاملة لأمته وشعبه ووطنه. ولما يتحقق هذا الحلم لفلسطين وشعبها في حين تفقده اجزاء اخرى من الوطن والامة ويغيب المستقبل العربي خلف غابة من حراب الاحتلالات الاجنبية ورحل صاحب (الجمر والرماد) موقنا ان الجمر سيبقى دائما تحت الرماد!