سعود عبد الله القحطاني


هؤلاء هم عقلاء أمريكا الذين يتفاخر الدكتور الفوزان بعرض مواقفهم من قضيته، وهذا هو ما قالوه في حق ديننا ونبينا، فلا أدري على أي مقياس بنى الفوزان حكمه على عقلانيتهم؟ خصوصاً وأنهم لم يعرفوا ويشتهروا إلا بسبب مواقفهم المتشددة تجاه كل ما هو إسلامي!

أثارت فتوى الدكتور عبدالعزيز الفوزان، أستاذ الفقه المساعد في جامعة الإمام محمد بن سعود، بخصوص الربط بين احتفالات أعياد عيد الميلاد وكارثة شرق آسيا، ردود فعل واسعة، على المستويين، المحلي والدولي. فمحلياً، تصدى للرد على هذه الفتوى مجموعة من الكتاب والمثقفين، كان من أبرزهم الأستاذ تركي السديري، والأستاذ جمال خاشقجي. ودولياً، فقد بثت شبكة "إن بي سي" الأمريكية مقاطع من اللقاء الذي أجري مع الدكتور الفوزان في قناة المجد، وبينت جريدة الحياة أن الفتوى قد أثارت استياء في الأوساط الأمريكية.
ولو أن الدكتور الفوزان اعتذر عن فتواه، أو حتى سكت عن الرد، لأراح واستراح، ولمرت هذه الفتوى كما مرت غيرها من فتاوى "مخجلة"، غير أنه أبى إلا أن يكابر في موقفه، فأصدر بياناً يرد فيه على من انتقدوا فتواه. ولي مع هذا البيان الوقفات التالية:

1- بدأ الدكتور الفوزان تصريحه بمقدمة قال فيها: (كل من يتصدى للدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسعى لإصلاح الناس، ويعارض أهواءهم المنحرفة، وإراداتهم الفاسدة، ويمنعهم من خرق سفينة المجتمع، وتهديم أمنه، وتعريضه لغضب الله ومقته، وأخذه وسطوته، فلا بد أن يوطن نفسه على ما يصيبه من أذى هؤلاء الخلق وظلمهم، وطيشهم وجهلهم..).
نلاحظ هنا من قراءة المقدمة التي بدأ فيها الفوزان رده، أنه وضع نفسه في صفوف الداعين لله، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والساعين لإصلاح الناس، بينما من عارضه من كتاب ومثقفين هم من أصحاب الأهواء المنحرفة، والارادات الفاسدة، وفي هذا الرد استجلاب لممارسة صحوية قديمة، كانت تقسم الناس إلى نوعين، أولهما هو حزب الله، وهم بالطبع حزب الصحوة ومن وافق على اطروحاتها، والثاني هو حزب الشيطان، وهم كل من عارض الصحويين ولو كانت هذه المعارضة في أصغر الجزئيات.

2- بعد أن استطرد الفوزان في الكلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال: (وإذا كان رب العزة سبحانه لم يسلم من أذى الخلق وجهلهم، فهو وإياهم في نبأ عظيم، يخلق ويعبد غيره، ويرزق ويشكر سواه.. وكذلك الحال مع أصفيائه وأوليائه، بل أفضل خلقه من رسله وأنبيائه، فقد أوذوا في الله ما لم يؤذ أحد، واتهموا بالجهل والكذب، والجنون والسفاهة.. فإذا كان هذا ما يحصل لرب العزة سبحانه، الذي له الخلق والأمر، وهو الحكيم الخبير، وهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وهو كذلك ما حصل لرسله وأصفيائه، أكمل الناس خلقاً، وأصدقهم نصحاً، وأتقاهم لله تعالى سراً وجهراً، فكيف بمن سواهم من ورثتهم في حمل هذا الدين وتبليغه للعالمين؟).

فهنا، يرفع الفوزان من نفسه ليقارن بين ما حصل له من انتقاد موضوعي وعلمي من كتاب مسلمين أفاضل، وبين ما جرى للرسل والأنبياء من أذى في تبليغهم لرسالة الله من كفار قومهم! بل إنه فوق هذا، قارن ما قيل فيه، بما قيل في الله سبحانه وتعالى - تعالى الله عما يقول علواً كبيراً -! فهل فوق هذا التطرف تطرف؟ وهل نقد الفوزان مبرر للتشكيك بصحة إيمان من قام بنقده؟ ثم من يكون الفوزان حتى يكون فوق النقد والتقويم؟ ألسنا كلنا راد ومردود عليه سوى صاحب القبر؟ ولا معصوم سواه؟ ولا كنيسة في الإسلام؟ فعلى ماذا إذن بنى الفوزان رده؟

من الواضح أن الفوزان معجب جداً بذاته، وعلى أنه أستاذ للفقه، فيبدو أنه قد نسي أن تمجيد الذات، وتزكية النفس، أمر مذموم، شرعاً وعقلاً، قال تعالى: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء} وقال عز وجل: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم".

كما أن من البين، أن في كلام الفوزان السابق (نرجسية واضحة)، وإحساس طاغ بالعظمة، وحاجة للفت أنظار الآخرين وكسب إعجابهم، عن طريق هذه المقارنات المثيرة للتعجب! ومن المعلوم أن الشخصية النرجسية ممزوجة بالشعور بالعظمة، تميل إلى العيش في أحلام اليقظة، والاعتقاد بأنها شخصية مميزة بل ومميزة للغاية، ولعل هذا المفتاح النفسي لفهم سر المقارنة السابقة! بل وانها المفتاح أيضاً لفهم ما قاله لاحقاً: (وقد تقاعس أقوام كثيرون عن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،.. ونسوا أن قعودهم عن القيام بهذه الشعيرة العظيمة هو عين الهلكة والندامة، وأن العذاب إذا نزل عم الصالح والطالح، والكبير والصغير.. هذه حقيقة أحببت التذكير بها حين رأيت عجباً من بعض الصحفيين وكتاب الساحات في الشبكة الدولية، الذين استنكروا ما ذكرته في برنامج "الجواب الكافي" في قناة "المجد الفضائية"..).

فالدكتور الفوزان، وريث الأنبياء والرسل، قال ما قاله في قناة المجد حتى لا ينزل علينا العذاب، العذاب الذي إذا نزل يشمل الصغير والكبير، والصالح والطالح، فهو صاحب فضل كبير على الأمة، بما قاله في قناة المجد في ذلك المساء المبارك، غير أن أكثر الناس لا يعقلون!

3- بعد هذا كرر الفوزان فتواه السابقة فقال: (الزلازل والفيضانات المدمرة التي وقعت في شرق آسيا وجنوبها عقوبة إلهية، ونذارة ربانية لمن يبارزون الله بالمعاصي، ويحادونه بأنواع المنكرات والقبائح من الربا والزنا والشذوذ الجنسي، والانفلات الخلقي، وغيرها..). ثم عرض لتساؤلات الأستاذ تركي السديري بخصوص هذه الفتوى، فأوردها بشكل ناقص ومبتسر، فالسديري لم يكن تساؤله محصوراً بالسؤال عن ما هو ذنب الشعوب الفقيرة، ولكن كان تساؤله بالنص: (ما هي علاقة أعياد الميلاد - وهي مناسبة تعم البيوت والفنادق والمطاعم والكنائس على كل الأرض الأوروبية والأمريكية - بسكان جنوب شرق آسيا الذين يعانون من مشاكل معيشية وصحية كثيرة؟.. هل تأخذهم الأمواج وتفتتهم الصخور لكي يرعوي من هم يتعبدون ثم يغنون ويرقصون في أوروبا وأمريكا؟.. إذاً هل وباء الإيدز المنتشر في أفريقيا هو جرس إنذار آخر؟.. هل مشاكل العالم العربي السياسية مع أمريكا وإسرائيل وهبوط مستويات المعيشة والبطالة في معظم الدول العربية أيضاً يرصد ليكون عبرة للأوروبيين والأمريكيين؟.. لماذا لا يعاقب هؤلاء وحدهم؟ بل ما نجده هو أن علومهم قد حمتهم من آفات كثيرة). هذه التساؤلات ما زالت حتى الآن بدون إجابة من الدكتور الفوزان، ولعلي أضيف إليها تساؤلاً آخر مضمونه: لماذا كان أغلب ضحايا الزلزال هم من الفقراء أصحاب "العشش" والبيوت الصغيرة، بينما بقيت الكثير من العمائر الكبيرة - والتي تعود ملكياتها للأغنياء المترفين - راسية شامخة في مكانها؟

4- يقول الفوزان: (لقد أعمت النظرة المادية كثيراً من أبناء هذا العصر). كما يقول: (الأسباب المادية التي يذكرونها - إن صحت - لا تعدو أن تكون وسيلة لما تقتضيه الأسباب الشرعية من المصائب والعقوبات العامة).
والحقيقة أن هناك متطرفين أعمتهم النظرة المادية للأمور، كما أن هناك متطرفين في الجهة المقابلة أعمتهم النظرة الميتافيزيقية لها، ومن المؤكد أن الفوزان بطرحه الأخير يعتبر من هذه الفئة، ولو أننا أخذنا بطرحه، لما كان هناك من حاجة لنا في أن نتخصص في العلوم الطبيعية، وتحديداً، فلا حاجة لنا بدراسة الجيولوجيا، فالزلازل والفيضانات لا راد لها. بمثل هذه الرؤية، بدأ عصر انحطاط المسلمين، ويبدو أنه سيستمر طويلاً ما دام في أساتذة الجامعة من يتبنى مثل هذا الطرح!.

5- يقول الفوزان في انتقائية واضحة ومبيناً بحق أن التطرف ملة واحدة: (هذا هو ما يؤكده العقلاء من غير المسلمين من الأمريكيين وغيرهم. ومنهم على سبيل المثال بات روبرتسون، وجيري فولويل، وغيرهما. حيث يصرح هؤلاء في أكبر المحطات الأمريكية بأن الشذوذ الجنسي والزنا والإجهاض من الذنوب الكبيرة التي ستجلب الدمار لأمريكا، وهو سبب ما يحصل فيها من الأعاصير، والفيضانات، والحرائق، والأمراض الفتاكة).

فالعقلاء من غير المسلمين بنظر الفوزان هما: المتطرفان "بات روبرتسون" (المنادي بالشعار التوراتي: أعطى بني إسرائيل حق وراثة أرض كنعان) و"جيري فولويل"!
والأول هو من قادة الاتجاه الديني اليميني المتشدد في الولايات المتحدة، واشتهر بتصريحاته المعادية للإسلام، ومثلما أدلى الفوزان بتصريحاته المتطرفة في برنامج "الجواب الكافي" فإن "روبرتسون" قال في برنامجه "نادي السبعمائة": (إن الإسلام يرفض أن يقيم المسلمون أية علاقات صداقة مع غير المسلمين، إذ يطالب القرآن المسلمين بقتل غير المسلمين أينما وجدوهم) ويقول: (إن هدف المسلمين في أمريكا هو التعايش حتى يتحكموا ويسيطروا ثم يدمروا) ويقول أيضاً: (أنه يعارض تأكيد الرئيس الأمريكي جورج بوش على فكرة أن الإسلام دين سلام، وأكد أن الإسلام من وجهة نظره ليس دين سلام وأن القرآن يشير بوضوح إلى هذا الأمر للمسلمين إذا رأيت كافراً فيجب عليك قتله). و"روبرتسون" هذا، هو من أنشأ منظمة "التحالف المسيحي"، وهي منظمة تهدف إلى توحيد أصوات المتدينين من التيار اليميني في السياسة والانتخابات الأمريكية، وقد سبق له أن أساء للأمريكيين الذين يعتنقون الإسلام ووصفهم بالجنون (شبكة النبأ المعلوماتية/مؤسسة المستقبل للثقافة والإعلام). وفي برنامج "هانيتي أند كولمز" وهو أحد برامج قناة فوكس الاخبارية الأمريكية استضاف المذيع "شون هانيتي" القائد الديني اليميني المتشدد "بات روبرتسون" الذي تعرض لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بإساءات بالغة وإهانات واضحة ومليئة بالكراهية للإسلام والمسلمين. ووصف "بات روبرتسون" خلال البرنامج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (هذا الرجل كان مجرد متطرف ذي عيون متوحشة تتحرك عبثا من الجنون. لقد كان سارقاً وقاطع طريق. وتقول: إن هؤلاء الإرهابيين يحرفون الإسلام إنهم يطبقون ما في الإسلام). وقال أيضاً: (إن الإسلام هو خدعة هائلة)، كما قال: (إن القرآن هو سرقة دقيقة من الشريعة اليهودية.. أنا أعني أن هذا الرجل - الرسول محمد - كان قاتلاً.. التفكير في أن هذا الإسلام هو دين سلام هو احتيال كبير). (راجع تقرير مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) - سبتمبر 2003).

وأما "جيري فولويل"، فهو كما يذكر الدكتور محمد إدريس: (يمارس مواقف مناهضة للعرب ولحقوقهم، كما يعارض بيع أسلحة أمريكية للدول العربية، ويمارس ضغوطاً في الكونجرس لنقل السفارة
الأمريكية إلى القدس، ويقدم شهادات استماع أمام لجان الكونجرس المختلفة بهذا الشأن، حيث يرى أن القدس هي عاصمة لليهود منذ آلاف السنين وأن نقل السفارة إليها خطوة مبررة دينيا وصحيحة سياسياً، وأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي ينكر حقها في اختيار مكان عاصمتها. وقد عبرت إسرائيل عن تقديرها للقس الصهيوني جيري فولويل، فمنحته ميدالية الزعيم الصهيوني الإرهابي جابوتنسكي، وزرعت غابة باسمه في أحد جبال القدس المحتلة)، وهو من وصف رسولنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم بأنه إرهابي!.

هؤلاء هم عقلاء أمريكا الذين يتفاخر الدكتور الفوزان بعرض مواقفهم من قضيته، وهذا هو ما قالوه في حق ديننا ونبينا، فلا أدري على أي مقياس بنى الفوزان حكمه على عقلانيتهم؟ خصوصاً وأنهم لم يعرفوا ويشتهروا إلا بسبب مواقفهم المتشددة تجاه كل ما هو إسلامي! من المؤكد أن مقياس العقلانية لديه هو مقياس انتقائي، يقوم على اسباغ هذه الصفة على من وافقه في أطروحاته، وهذا احتمال قوي، غير أن هناك احتمالاِ آخر أقوى، مفاده أن مقياس العقلانية لديه يكمن في تبني المواقف الدينية المتطرفة، والمتبنية بشكل أو بآخر لنظريات وأفكار صدام الحضارات الحتمي، والرافضة وبكل شكل لفكرة حوار الحضارات، وما شابهها من دعوات إنسانية.

وعلى أي حال، فلا شك أن فتوى الفوزان الأخيرة، قد أثبتت وبما لا يدع مجالاً للشك، بأن إزالة الخطاب المتطرف من ثقافتنا المحلية ما زال في بداية مشواره، ومن المؤكد بأن الإنسانية، بمفهومها الشامل، ما زالت لغزاً صعباً على الكثيرين، وكأن الله قد نزع الرحمة من قلوب البعض، والمسؤولية في المقام الأول والأخير في هذا الصدد هي على الكتاب والمثقفين، والذين لا يمكن التطرق لهم، دون الإشارة إلى ما كتبه الزميل رضا لاري في جريدة "الرياض" تحت عنوان (طوفان شرق آسيا). وكان مما قاله في مقاله: (التفسير العلمي لكارثة البحر في شرق آسيا، الذي يقدمه الجيولوجيون، لا يتناقض مع القول الذي يذهب إلى تفسير الطوفان بغضب الله، من ما يرتكبه الإنسان، من الآثام في الأرض)، هذا التفسير اللاري للجيولوجيا لا شك أنه يتوافق مع فتوى الفوزان، مما يدل على أن المشكلة ليست محصورة فيمن تعلموا في البيئة الدينية فحسب، بل هي مشكلة عامة، وتحديداً فهي مشكلة ثقافة، ومما يدل على ذلك، موقف شيخ الأزهر العقلاني من هذه الكارثة، حيث قال في لقائه مع جريدة "الرياض": (لا استطيع القول على هذا الزلزال حدث لنقمة ربانية انهم احتفلوا بعيد الميلاد "الكرسمس" وشربوا الخمر لا استطيع أن أقول عن الأحداث الكونية بهذا لأنها تحدث في بلاد المسلمين وغيره انها أحداث كونية تحدث بمشيئة الله فقد تحدث إلى المسلمين ولغير المسلمين ونحن طبعاً يجب أن نقدم العون لمساعدة هؤلاء المنكوبين)، ولله في خلقه شؤون