في التاسع من يناير 2005، وقعت الحكومة السودانية، والحركة الشعبية لتحرير السودان، اتفاق سلام تاريخيا في العاصمة الكينية نيروبي، وينهي بذلك أطول حرب أهلية في تاريخ القارة السمراء استمرت 21 عاما وراح ضحيتها نحو مليوني مواطن وتشريد نحو أربعة ملايين آخرين من أبناء السودان الشقيق، الذي يودع بهذا الاتفاق الحرب والدمار من أجل السلام والاستقرار.
على حد وصف الرئيس عمر البشير بأنه عقد جديد لجميع السودانيين، يجب أن نستخدمه لحل النزاع في دارفور، كما أكد جون قرنق رئيس الحركة أنه سيغيرالسودان الى الأبد، وأنه أفضل هدية عام 2005 للشعب السوداني والمنطقة وافريقيا.
ولأننا نتفق مع المحللين والخبراء الذين يرون في هذا الاتفاق نقطة تحول بالغة الأهمية في شارع السودان، ونموذجا مضيئا لتسوية الخلافات والتعايش السلمي بين جميع دول القارة، فإننا سوف نرصد أهم ملامحه، ونجيب على سؤال مهم حول ضمانات صمود هذا الاتفاق التي نأمل أن تحول بينه وبين مصير اتفاقين سابقين في تاريخ السودان الأول اتفاق اديس أبابا عام 1972 في عهد حكومة الرئيس الاسبق جعفر نميري، واتفاقية الخرطوم للسلام التي وقعتها حكومة الرئيس البشير التي صمدت حتى عام 1983، وانهارت بعدها...!
ونبدأ الآن في رصد أهم ملامح هذا الاتفاق الذي يقع في 300 صفحة باللغتين العربية والانجليزية، واستغرقت المفاوضات عليه 30 شهرا ويضم ثمانية بروتوكولات اتفق عليها الجانبان في 31 ديسمبر الماضي، والتي توجت بالاتفاق النهائي الذي وقعه عن الحكومة النائب الأول للرئيس السوداني علي عثمان محمد طه وزعيم الحركة جون قرنق، وممثلو 12 دولة ومنظمة كشهود من بين نحو 25 رئيس دولة وحكومة وممثلو منظمات اقليمية ودولية حضروا الاحتفال التاريخي للتوقيع.
وتتمثل الجوانب الموضوعية في الاتفاق في تقسيم السلطة والثروة بين الشمال والجنوب الذي أصبح له حق المشاركة في الحكم في اطار ديمقراطي يضمن للجميع حقوقا متساوية تحترم فيه كرامة الانسان والمبادئ الدستورية وحرية الاعتقاد والسعي الى البناء والتعمير، وتتمثل في التالي :
** أولا: مرحلة انتقالية ودستور وطني : يحدد الاتفاق مرحلة انتقالية مدتها ست سنوات، تطبق خلالها الشريعة الإسلامية في الشمال ولا تطبق في الجنوب، كما يجري التفاوض لاعداد دستور وطني انتقالي في غضون ستة أسابيع من توقيع الاتفاق، ويؤدي اليمين كنائب أول للرئيس السوداني جون قرنق رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، وتشكل حكومة وطنية تحكم السودان خلال هذه المرحلة الانتقالية، والتي يحق بعدها لسكان الجنوب تقرير المصير، بالتصويت إما بالبقاء في النظام الذي يتم اقراره خلال هذه المرحلة أو الانفصال عنها.
ثانيا: تقسيم السلطة التنفيذية والتشريعية: بمقتضى هذا الاتفاق تنشأ علاقة جديدة بين الشمال والجنوب، عن طريق توزيع المناصب العليا للسلطة في خطوة غير مسبوقة، وإنشاء مؤسسات وهياكل جديدة لتيسير العلاقة بينهما في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، واعادة هيكلة مؤسسة الرئاسة بحيث يحصل الجنوب على صلاحيات شبه كاملة، ويكون له حق الفيتو تجاه البت في أساسيات إدارة الدولة التي يشارك في الحكومة المركزية، وعلى هذا الأساسي يحصل حزب المؤتمر الوطني الحاكم على 52% من المقاعد والحركة على 28% وأحزاب شمال السودان الاخرى على 14% تقسم السلطتان وبقية الأحزاب على 6%، كما يتولى رئيس الحركة منصب النائب الأول للرئيس.
كما يقضي الاتفاق بتقسيم المقاعد في الادارة الاقليمية على أساس 70% لحزب المؤتمر و10 % للحركة وبقية الاحزاب السياسية في الجنوب على 20%، كما تحصل الحركة على 70% من المقاعد الحكومية والتشريعية في حكومة الجنوب، والقوى الجنوبية الاخرى وحزب المؤتمر على 15% لكل منها، كما تتم في الولايتين على أساس 55% لحزب المؤتمر والحركة 45%، ويكون الحكم في الولايتين دوريا بحيث يتولى كل جانب منصب المحافظ لنصف الفترة السابقة على اجراء الانتخابات، كما يقضي الاتفاق بتعيين برلمان من مجلسين لمدة ثلاث سنوات الأولى يتألف من 450 عضوا والثانية مجلس الولايات من 50 عضوا وذلك قبل الانتخابات المحلية والبرلمانية في العام الرابع من الفترة الانتقالية.
***
ثالثا : تقسيم الثروة : تقسيم صافي عائدات النفط خلال الفترة الانتقالية على أساس حصول الحكومة الوطنية على 50% وحكومة الجنوب على 42% بينما يحصل كل من منطقة بحر الغزال في الجنوب وغرب كردفان وسكان نجوك دنيكا والمسيرية على 2% والمعروف أن انتاج الجنوب من النفط يصل حاليا الى 350 الف برميل يوميا تصدر عبر بورسودان، كما يقدر احتياطي السودان بنحو ملياري برميل.
رابعا: وقف اطلاق النار وإلغاء الطوارئ: يتضمن الاتفاق وقفا دائما لاطلاق النار، وانشاء وحدات مسلحة مشتركة قوامها نحو 40 الف جندي تنتشر في أنحاء الجنوب والمناطق الثلاث التي كانتا متنازعا عليها من قبل وهي ايبي وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان، فضلا عن وحدة واحدة في العاصمة، وخلال فترة انتقالية مدتها ستة أشهر تقدم الادارة في الجنوب التمويل الرئيسي لوحدات الحركة، بينما تمول الحكومة التي تتمركز في الخرطوم الجيش الشمالي والوحدات المشتركة وفي المدى الطويل يترك تمويل القوات الجنوبية بما يقرره المجلس الوطني خلال الفترة الانتقالية.
كما يقضي الاتفاق بإلغاء حالة الطوارئ المعلنة في السودان منذ 1999 في جميع المناطق الخاضعة لاتفاق وقف اطلاق النار الموقع بين الحكومة والحركة، كما تلغي الطوارئ في المناطق الاخرى باستثناء التي لا تسمح الأوضاع فيها بذلك، كما يطلق سراح أسرى الحرب في غضون 30 يوما من توقيع الاتفاق، الذي تراقبه قوة المراقبين التابعة للأمم المتحدة وتتحقق من الالتزام ببنوده وفقا للفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة.
***
نصل الآن الى رصد مجموعة الضمانات التي نراها تحافظ على هذا الاتفاق والالتزام بتنفيذ كل بنوده وهي:
(1) اعتراف جميع السودانيين حكومة ومعارضة بأنه لا سبيل أمامهم لحل النزاع وانهاء حالة الحرب إلا بالجلوس على مائدة المفاوضات المسبوقة بحسن نيات الطرفين، من أجل أن يسود السلام والاستقرار والانطلاق الى البناء والتعمير، في اطار دستور جديد مؤقت ينص عليه الاتفاق، وتشكيل برلمان انتقالي يكون للجنوبيين ثلث مقاعده، ومجلسا لتمثيل الولايات الست والعشرين، إضافة الى المحكمة الدستورية باعتبارها حارسا وصمام أمان لهذا الاتفاق، الذي يكتسب ضمانة أخرى بالغة الأهمية برضاء الشعب السوداني عن ذلك، وشعوره بالأمان والاستقرار وحل مشكلاته الحياتية.
(2) نص الاتفاق على بروتوكول لآليات التنفيذ ومن أهم بنوده الاتفاق على الجداول الزمنية وتحديد الأدوار والمسؤوليات في تنفيذ البروتوكولات الثمانية وهو ما يمثل ضمانة أيضا.
(3) يمثل حضور 26 دولة توقيع الاتفاق وشهادة ممثلي 12 دولة ومنظمة منها، ضمانة دولية، ومن بينها الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي وجامعة الدول العربية واللجنة الفرعية في الايجاد المعنية بملف السلام السوداني، والاتحاد الأوروبي، فضلا عن وزيري خارجية أمريكا باول ومصر أحمد ابو الغيط وغيرهما.
(4) تولي قوة المراقبين التابعة للأمم المتحدة مراقبة عملية السلام والتحقق من الالتزام به بموجب الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، ضمانة رابعة.
(5) يعد هذا الاتفاق نموذجا بارزا على أهمية دور المنظمات الاقليمية في حل النزاعات، حيث برز دور الاتحاد الافريقي في رعاية المفاوضات حتى التوصل الى الاتفاق النهائي، وهو ما يعد ضمانة خامسة.
***
ويبقى أن نأمل في نجاح السودان الشقيق بهذا الاتفاق غير المسبوق بأن تكون وحدته قوة جذب بين شماله وجنوبه بالتعمير والبناء والأمن والاستقرار بدلا من الحرب والدمار في إطار تقبل المساواة مع الاخر في الحقوق والواجبات وأن الدين لله والوطن للجميع للانطلاق الى حل أزمة دارفور حتى لا تظل تمثل شوكة في جسد السودان والقارة
وأحسب أن ما أعلنه الاتحاد الأوروبي عن استعداده لتقديم 400 مليون يورو من المساعدات التي حجبت منذ عام 1990، وما أعلن عن أن جامعة الدول العربية سوف تشارك بخطة تتكلف 200 مليون دولار، وما أعلنه وزير الخارجية المصري أحمد ابو الغيط أن مصر بدأت اجراءات تنفيذ مجموعة من المشروعات الصغيرة لاعمار الجنوب، تمثل جميعها وغيرها بداية صحيحة تفتح الباب أمام تعاون دولي وعربي يسهم في عملية الاعمار والبناء التي تمثل احد ضمانات ترسيخ الاتفاق.