“أكتب خططي بأحلام جنودي النائمين” هي العبارة الشهيرة لنابوليون. القائد الذي مات مهزوما، منفيا ومسموما. لكنه يظل رغم ذلك الشخصية الاكثر قدرة على إلهاب الخيال الجمعي القومي الفرنسي، الى جانب جان دارك ايضا. وفي ذلك يقول دومينيك دو فيلبان ان القادة الذين ينتهون نهاية طبيعية لا يكتسبون تلك الهالة التراجيدية التي تحولهم الى رموز تغذي الحس الوطني.
مقارنة تنطبق تماما على الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وتجعل قدرة الرئيس الجديد محدودة ازاء التخلص من خطه ومن بصماته، حتى اننا رأيناه خلال المعركة الانتخابية يستعير حركاته ونبرة صوته بل وعباراته.
غير ان المعادلة الحقيقية على الارض، اكثر تعقيدا، فأبو مازن لم يأت إلا لانه خطه الحقيقي مختلف عن خط عرفات، ولأن الذين لوحوا له بجزرة الدعم يضعون امامه مطالبهم المحددة. والا... فعصاة المصير العرفاتي جاهزة !! لكن الرجل يواجه عقدا كثيرة ليس اصعبها حماس المقاطعة للانتخابات او القوى اليسارية التي خاضتها ضده، بل ان الاصعب هي العقدة الفتحاوية نفسها، وجماهير الفلسطينيين التي اعطته صوتها.
لذا يشعر الذين يريدون دفع خط التسليم بأن عليهم ان يمارسوا اقصى الضغوط على الرئيس وحكومته، كي يدفعوا العجلة، ولا يحتاج اي متابع عادي الى تبين هذه الحملة، التي تتردد في اكثر من عاصمة. اما على الساحة الدولية فان الخطة الصهيونية الغربية جاهزة في ادق تفاصيلها، تفاصيل تصل حتى تلك التي لا ينتبه اليها احد، وقد لفتني منها بشكل طريف هذا الاسبوع اتهام ابو مازن بأنه ينكر الهولوكوست. قلة منا هم الذين يعرفون ان رسالة الدكتوراه التي قدمها ابو مازن قبل عقود، كانت عن الهولوكوست، ولا اعتقد ان احدا منا قد قرأها او عرف ما جاء فيها. لكن الدوائر اليهودية النشطة في العالم تعرف ذلك جيدا ولا تألو جهدا في توظيف تلك المعلومة، خاصة ان الوقت الآن مناسب جدا حيث تجتاح اوروبا هذه الايام حمى ذكرى الهولوكوست اليهودي، لا يمكنك ان تفتح التلفزيون، او المذياع دون ان تغرق في بحر من القصص والشهادات و لا يذهلك الكم فحسب وانما الطريقة الفنية السيكولوجية التي يبنى بها البرنامج وتساق بها الشهادات.
تلك الشهادات التي توقفت قبل يومين عند احداها وهي للسيدة سيمون فيل الشخصية السياسية البارزة التي رأست يوما البرلمان الاوروبي، فبعد ان تحدثت طويلا عن تجربتها في الاعتقال مع امها واختها، وعن موت الام العجوز ثم تحرير الفتاتين، وعن تعاطف السجانة الالمانية معها، وعن الاشغال الشاقة التي مارستها خلال وجودها في المعتقل، بعد ان يسألها المذيع الذي يصر على اعتمار القبعة اليهودية (الكيبا) رغم قوانين منع الرموز الدينية: هل كان التعذيب الذي لقيته هناك اكثر صعوبة في جانبه المادي ام في جانبه المعنوي: الاذلال؟ وتجيب بأن المعنوي كان اصعب.
ينتقل ليسألها: خرجت وتزوجت، ألم تشعري وأنت ترزقين باطفالك كم هو صعب الا تكون لهم جدة؟ وانت تعيشين حياتك العادية، هل يمر يوم ولا تتذكرين فيه الهولوكوست؟
غير ان المسؤولة الاوروبية تعرف بعد هذه التوطئة السيكولوجية الانسانية الناجحة ان تنتقل الى الحاضر، الى الهجوم، فتهاجم الفضائيات العربية التي تشكك بأمر المحرقة، وتجعل الشباب العربي، حسب قولها، يشكوّن في وجودها او في حقائقها. لذا تدعو فيل الى ممارسة نشاط مبرمج باتجاه هؤلاء الشباب لزرع القناعة بالمحرقة فيهم. وتضيف ان هذا النشاط قد بدأ فعلا هذا العام بدعوة عدد من الشباب الفلسطينيين الى اشويتز حيث عرض عليهم ما يكفي لاقناعهم، كما تقول.
أية مفارقة! هل يحتاج القادمون من غزة ورفح، من جنين واسواق نابلس الى الذهاب الى اشويتز؟ ام ان تلك عملية خبيثة لامتصاص الحقد؟
لذا، لا تنسى هي، ولا المذيع الذي يدير حواره معها، بشكل اوركسترالي واضح ان ثمة اعتراضا قد يقول إن هؤلاء انما يعيشون في بلادهم محرقة اصعب. فيستبقان ذلك بسؤال يطرحه المذيع: ما هو احساسك ازاء الذين يقومون بمقارنة المحرقة بالمجازر الاخرى في العالم. وترد بأن ذلك لا يجوز قطعا لأن الاسباب الايديولوجية والسياسية مختلفة تماما.
الاسباب الايديولوجية: لم تقل فيل انها الايمان بأن اليهود ابناء الله المختلفون عن ابناء الناس (الغوييم).لكن المذيع قالها بطريقة اخرى حين ختم بقوله: انت كفرد تعبرين عن قدر جمعي لشعب.
في جو مشحون لا يشكل هذا المثال الا نموذجا صغيرا جدا من مكوناته، دقائق من ساعات تمتد امتداد النهار يمطرنا بها الاعلام الغربي في الذكرى المضخمة كرغوة الصابون، يأتي الاتهام الموجه الى الرئيس الفلسطيني الجديد ليضعه امام خيارين: اما ان يسارع الى تاكيد ايمانه بالمحرقة وفق الرواية اليهودية واما ان يرفض ذلك، او ان يصمت. في الحال الاولى يكون قد قدم خدمة لا تقدر بثمن لتدعيم السلاح الذي يعتبر اقوى اسلحة اليهودية العالمية في السيطرة على الغرب. وعندها سيطلب اليه ان يعمل على اقناع الشباب الفلسطيني بذلك (ألم يقترح “الاسرائيليون” عقب اوسلو فرض تدريس تاريخ المحرقة في المدارس الفلسطينية مقابل السماح بتدريس مختارات من محمود درويش في “اسرائيل”؟ أوليست زيارة الشباب الفلسطينيين الى اشويتز هذا العام اول الغيث؟) وفي الحال الثانية ستتمكن هذه الدوائر من وضعه في صف اولئك الذين تسميهم بالنفيين، وذلك ما يعني تطويقا كاملا له على الساحة الديبلوماسية، بل وعزله اوروبياً وأمريكياً، وجعل كل مسؤول هناك يرتعب من التعامل معه.
اما في الحال الثالثة، فليس هناك ما يجبره على مقاربة هذه القضية، بل سيكون بامكانه، اذا اراد ان يكون حكيما وجريئا، ان يقلب الموضوع كليا لمصلحته، باستعمال المقارنة مع ما يجري لفلسطين، مع ابراز الفارق الاساسي الذي يتمثل في ان تلك القضية هي قضية الناس الذين تعرضوا من ضمن جميع من تعرض من الاوروبيين الى الاضطهاد، في اطار حرب عالمية شاملة خاضتها اوروبا، في حين ان قضيتنا هي قضية شعب يتعرض للاضطهاد في حرب لم يكن له فيها ذنب ولا قرار، لكنها قبل ذلك قضية احتلال ارض، مصادرتها، طرد اهلها، واحلال اخرين مكانهم، وفي ذلك ما يتجاوز اية مجزرة او محرقة في التاريخ.
واذ يتزامن ذلك مع الهستيريا التي تعيشها اوروبا في احياء ذكرى المحرقة، فإن ذلك يفتح الباب للقول إن ما سببته اوروبا للعرب ولفلسطين، اكبر مما سببته لليهود، وان عليها التعويض. وبالقول ان التعويض من املاك الآخرين امر لم تعرفه اي من الشرائع، بالقول ان اوروبا حرمت بعض مواطنيها من اليهود من الراحة والحياة، لكنها لم تحرم مواطني ارض تاريخية من ارضهم، امانهم، حياتهم، وجنسيتهم الا باقامة دولة “اسرائيل”. ان اليهود الاوروبيين كانوا جزءا من الحرب العالمية ولقوا فيها ما لقوه ، لكننا نحن العرب لم نكن كذلك لتصيبنا سايكس بيكو وسان ريمو وبلفور والهجرة والتقسيم وحروب الاحتلال.
في رصيد الرئيس الفلسطيني الكثير مما يمكنه ان يقوله، الكثير مما يستطيع هو ان يقيمه اكثر، شرط ان تكون لديه الارادة في قلب المعادلة لمصلحته ومصلحة قضية شعبه، وشرط الا يقع اطلاقا في فخ ذي شقين تنصبه الدوائر الصهيونية:
الشق الاول هو الوصول الى تكميم افواه المثقفين والاعلاميين والكتاب الذين يتكلمون عن الهولوكوست ويبحثون فيه. اذ ان تفعيل عمل الذين يضعون اسطورة الهولوكوست في حجمها الطبيعي، هو مساهمة في تخفيف ضغط اللوبي الصهيوني على الغرب، والغرب الاوروبي خاصة، ونفوذ هذا اللوبي على جميع ساحاته، وعلى الاخص بشأن القضية الفلسطينية. والشق الثاني هو عدم القبول بتنفيذ الخطة التي تحدثنا عن مرحلتها الاولى، وهي اصطحاب شباب فلسطينيين الى اشويتز لاقناعهم بقصص المحرقة وتعريضهم لعملية غسل دماغ، قد تصل بهم الى الاشفاق على اليهود بدلا من التحريض ضدهم. الى ادخالهم دائرة عقدة الذنب التاريخية ازاء هذا الشعب المضطهد الذي يتوجب علينا باسم المروءة العربية وبفعل المازوشية المزمنة ان نمنحه مأوى، ينطلق منه الى حكم العالم.
اما بالنسبة للاعلاميين فإن علينا ان نخوض معركتنا في هذا السياق، وان نتعلم الكثير من عدونا، قبل ان يصبح علينا الاعتذار عن كلمة عدو، نحن لسنا بحاجة الى ان نكذب ونضخم عذاباتنا مثله، ولكننا نحتاج الى ان نعرف كيف نقدمها، كيف نوظفها، كيف نقيم المقاربة القادرة على التأثير في المتلقي العادي. فما ينقصنا في الاعلام العربي حول عذاباتنا المذهلة من فلسطين الى العراق الى السودان الى لبنان هو هذه المقاربة الذاتية الانسانية التي تحقق التماهي بين المتلقي والحالة، فتجعله يعيشها. وذاك ما لا يحققه الطرح السياسي الفوقي الذي يمر من فوق رأسه، واذا لامس جلده فإنه لا يعبر الى شرايينه. كما ينقصنا الخطاب العلمي الموثق العارف الذي لا يكتفي ايضا بالشعارات التي تعبر من فوق الرؤوس ولا تسري في تلافيف الدماغ.