هناك كثيرون يسعون جهدهم لدفن العراق الوليد قبل ان يفتح عينيه، وهناك من أخذ على نفسه عهدا بأن يخنق هذا الصغير بلفافته البيضاء، قبل ان يلثغ بكلمته الاولى. وهؤلاء ليسو ايران، وبعض الدول المجاورة، فقط، كما يؤكد ليلا و نهارا حازم الشعلان وزير الدفاع العراقي، ولا بقايا البعث الذين تردد أن ابن عم صدام حسين عز الدين المجيد يمول قسما كبيرا من اعمالهم العنيفة، تحت يافطة دينية هذه المرة، ولا حتى بعض الأشقياء ومرتزقة الحروب، الذين وبكل بساطة، يريدون الإفادة من حالة التفكك الأمني، لممارسة تجارة الخطف والابتزاز، دون أن يكون لهم توجه ايديولوجي او سياسي، ولا«ما يحزنون»!
كل هؤلاء، يسعون لقتل المستقبل العراقي، لاشك في هذا، وكل يفعل ذلك لسببه الخاص. فإيران، مثلا، تخرب في العراق حتى لا يتدحرج عليها حجر التغيير، ولذلك تسعى لإبقاء هذا الحجر غائصا في طين أرض السواد.
والبعثيون من أجل استعادة ملك مضاع، واللصوص من أجل استتدرار ضرع الفوضى الى آخر قطرة.
لكن، ورغم فداحة أضرار هؤلاء على العراق، وبالنتيجة على جيران العراق، الا انني اعتقد انهم يمثلون أضرارا قصيرة الامد، ممكنة الحل، ولا يقال ذلك على سبيل التمني والرغبة، بل لأن هناك بعض الاجراءات والتدابير، التفصيلية، التي لو اتخذت لأمكن تقليص دوائر هذه الاخطار.
لنتحدث عن ايران، التي يمكن خضد شوكتها عبر اليقظة الامنية، وضبط الحدود معها، فحدود العراق اصبحت منخلا تنز من ثقوبه، دوما، المئات من ديدان الارهابيين وجنود المخابرات الاجانب، حتى ان حازم الشعلان قال، بمرارة، في لقاء تلفزيوني هذا الاسبوع:«أغلقوا لي الحدود، وأعالج الوضع داخليا في غضون اسبوعين أو ثلاثة»! ثم عبر الضغط الامريكي اكثر حتى تكف ايران عن التخريب. وأما عن البعثيين وأنصارهم من الاقارب، وبعض ابناء عشائرهم، ومن معهم من آكلي دولارات صدام المهربة، فيمكن التعاطي معهم اجتماعيا وعبر صيغ الترضية المحلية، ثم من خلال ايقاف صنبور الاموال المتدفقة الى عروق الجماعات التي تدار من قبل بعثيي الخارج. اما المرتزقة المحترفون، فسينكمشون بشكل طبيعي، ولا يزولون، بعد جفاف مستنقع الفوضى من حولهم.
ما يقلق أكثر من هذا كله، هو جماعات العنف الاصولي، وعلى وجه الخصوص جماعة الأردني ابو مصعب الزرقاوي. فهذه المجموعة ليست مربوطة بغاية سياسية معقولة تسعى لتحقيقها، أو أنها تملك المرونة للتعاطي مع بعض التفاصيل وتتحاور حولها، وتغير مواقفها السياسية طبقا لما يتغير على الأرض، هي لا تحفل بكل هذا ولا ترفع به رأسا، وما ذاك الا لسبب واضح وبسيط، انها جماعة عقائدية أخذت على عاتقها تحقيق شريعة الله وتطبيق المعايير الاسلامية الحقيقية على نهج السلف الصالح، وطرد حكم «الجاهلية» من ارض الرافدين، اولا، ثم الهجوم على بقية البلدان الاسلامية المحكومة بشرعة «المرتدين» وتطهيرها من هيمنة الكفر واحكامه... هذه أهداف معلنة وليست «استنتاجات» خاصة، حتى لا يتحذلق البعض علينا فيتحدث عن «مقاومة» لتحرير «الوطن» العراقي. هم يكفرون بهذا الوطن، وبحدوده الجاهلية.
الزرقاوي قرر أن يصعد من هجماته، ويضاعف سياراته المفخخة، حتى يرعب العراقيين، والسبب الرئيسي الذي يجعل هذا الأصولي يفعل ذلك، لأنه يرى أن فكرة الديموقراطية فكرة «كافرة»، ليس لأن الامريكان يريدونها في العراق، بل لأنها هي، وبحد ذاتها، فكرة كافرة... أيا كان موقع البلد الذي تجري فيه.
انظروا اليه ماذا يقول، كما في شريطه الصوتي الذي نشرت «الشرق الاوسط» فقرات منه في عدد امس، يقول معللا ازماعه القيام بتفجير المقرات الانتخابية وقتل الناخبين: «المشرع المطاع في الديمقراطية هو الانسان وليس الله وهذا يعني ان المألوه المعبود المطاع من جهة التشريع والتحليل والتحريم هو الشعب وهو الانسان والمخلوق وليس الله تعالى، وهذا عين الكفر والشرك والضلال». وقال أيضا : «تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية تشكيل التجمعات والاحزاب السياسية ايا كانت عقيدتها وافكارها وأخلاقيات هذه الاحزاب، وهذا مبدأ باطل شرعا ... والاعتراف الطوعي بشرعية الاحزاب الكافرة يتضمن الرضا بالكفر.. والرضا بالكفر كفر». وتحدث عن أشياء اخرى، لا تخرج عن هذه الذهنية، ثم خرج بالخلاصة التالية:
«اعلنا الحرب اللدود على هذا المنهج الخبيث (الديمقراطية) وبينا حكم اصحاب هذه العقيدة الباطلة والطائفة الخاسرة».
لكن اللعبة الاخطر التي حاول هذا المتعصب أن يلعبها، هي اللعبة الطائفية عبر تعليله رفض الانتخابات لأن الشيعة او «الرافضة»، على حد تعبيره سيكونون الاوفر حظا بها، وهذا ما لا ترضاه العقيدة الحقة بطبيعة الحال، وقال ان الانتخابات «مصيدة خبيثة ترمي لسيطرة الرافضة (الشيعة) على مقاليد الحكم في العراق».
ولا شك ان لغة كهذه ستعزز الفرز الطائفي في العراق كله، حتى ولو حاول السيد عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الاعلى للثورة الاسلامية تطميننا بأن الزرقاوي لن ينجح في اثارة فتنة طائفية في العراق، فهذا ما يقوله «السياسي» عبد العزيز الحكيم، لكن ماذا عن طبيعة المشاعر التي تمور في القواعد الشارعية الشيعية التحتية ازاء مثل هذا الخطاب الزرقاوي الاستئصالي؟! إلى الآن لم يحصل شيء مريع، لكن من يضمن عدم حصول ذلك في الفترة القريبة؟
المحزن أن المتابع يشعر بضياع بوصلة السنة العرب في العراق، ولا أقول كل السنة، فالاكراد السنة يتصرفون بشكل شديد الذكاء والحرص.
لكن السنة العرب ما زالوا في منطقة الحيرة والتردد بين الامس واليوم والغد، مع ان بعض احزابهم وشخصياتهم المعتبرة قد ساهمت في صياغة وولادة الراهن الجديد.
وحسبما أجزم فان مصلحة السنة العرب تكمن في الانفصال التام عن خيارات القاعدة في العراق، ونصائح «الاردني» ابو مصعب الزرقاوي، فأهل الدار هم الباقون في النهاية، وأولئك الزائلون، كما زالوا من البوسنة وألبانيا، وكما انهاروا في أفغانستان.
السنة العرب في العراق أمام مفترق طرق تاريخي، فإما ان يراهنوا على انتحاريات الاصوليين، أومساندات الايرانيين، وهنا لا بد من وقفة سريعة، فهذه من الغرائب، ان تساند ايران الشيعية جماعة الزرقاوي السلفية، لكن ماذا نقول ونحن نرى ان ايران تستضيف قيادات القاعدة الفارين
(ابو غيث وسيف العدل وسعد بن لادن...الخ) وتجعل أرضها معبرا لمقاتلي القاعدة من وإلى افغانستان والعراق، ووزير الدفاع العراقي يؤكد أنهم قبضوا على المئات من عناصر الحرس الثوري والمخابرات الايرانية اثناء اقتحام الفلوجة، وزيادة في سلامة وسلاسة هذا التدخل لدى اصوليي القاعدة، كان هؤلاء العناصر يتحدرون من سنة ايران لا من شيعتها، طبقا لتصريحات الشعلان!
اذن هذا هو الخيار، إما مع الانتحار والتدمير والتوجه الايراني، وما شابهه! وإما الدخول في هذا المشروع الجديد، وتحسين شروطه قدر المستطاع، فما مضى قد مضى، والبكاء على الأطلال والتجمد عند مواقد النار الهامدة هو موت بشكل آخر.
نعم قد تكون هناك مطالب سنية حول هذه الانتخابات، وتحفظات معينة، وهذا من حقهم، مثل طلب تأجيل موعدها، كما قال مستشار الرئيس المصري اسامة الباز :«من حقهم ان يتحدثوا عن هذا مع اشقائهم وكذلك مع السلطات الداخلية». لكن هذا لا يعني سلوك ممرات العدم والفناء.
على كل حال، لم تبق الا ايام معدودة على موعد الانتخاب، ولا ندري عماذا ستسفر، ولا كيف ستتم، ولا عن كمية العمليات التي ينجح الزرقاوي في تنفيذها، ولا عن عدد القتلى الذين ستحصدهم قنابل الكراهية والتعصب، الممولة بمال الاغراض السياسية من هنا وهناك.
لكن ما ندريه، أنه لا خيار آخر امام العراقيين، كل العراقيين، إلا هذا، لا بد من المشي فوق هذا الجسر حتى ولو كان ساخنا ومليئا بالأشواك والدماء، لا خيار الا هذا، من أجل أهل الدار أولا، ثم من أجل جيرانه ثانيا، هذا أو لنبشر بليل مظلم مع أفغانستان اخرى، ولكن في قلب العالم العربي هذه المرة...!