كان كل من لقبي التكريتي والدوري بمثابة أسماء حركية أو رديفة لمجموعة من منتسبي هذه العشائر، التي تملك مصائر الناس قبل كل شيء. والواقع أن لقب التكارتة يخص العشائر التي تقطن تكريت وما حولها شمالا، فيما لا تدخل ضمن هذا المصطلح العشائر التي تقطن على الجنوب من تكريت ومن بينها قرية العوجة مسقط رأس صدام، حيث عشيرة البو ناصر التي ينتمي إليها صدام حسين، وآل عبد الغفور الفخذ الأخص. بيد أن التنازع الداخلي بلغ العصب الأعمق، فأوغل في عظام الرقبة، ولم يقف عند حدود الفخذ، أو البطن، فكان قطع رأس حسين كامل وأشقائه ووالدهم ليلخص، لا مجرد صراع عائلي فحسب، بل منازلة نوعية بين وزيري دفاع سابقين أيضاً هما العم وابن أخيه! وهي أيضاً منازلة بين ضباط كبار في جهاز حماية القصر وهم أبناء العمومة والأخوة الأعداء في صراع بغداد.
لكن اللافت إن دوران عجلة الزمن وتبدلاته، أوصلت البعض من التكارتة بعد سقوط صدام إلى التبرؤ من انتمائه إلى المدينة، معلنين إن الكيلومترات العشرة، التي تفصل مدينتهم عن قرية العوجة، مسافة كافية لإثبات ان العوجة ليست تكريت وإن لقب التكريتي انتحله صدام ولم يستحقه!. بيد إن الأمر يستدعي هنا أن نذكر بأن تكريت كانت هي لقب الانتماء الأبرز إلى جانب لقب الدوري، تماماً كما هو الترتيب الحزبي في السلطة موزعاً بين «القائد صدام التكريتي» ونائبه عزت الدوري، بل ثمة من يذهبون اليوم إلى تفسير اسم العوجة نفسها بوصفها الاعوجاج الذي طال سيرة مدينة تكريت، وليس هو الاسم الذي يستمد من اعوجاج نهر دجلة عن تلك المنطقة فحسب.
ومع هذا فإننا نتحدث اليوم عن محافظة صلاح الدين، وثمة رغبة حقيقية، لدى كتلة اجتماعية واسعة في العراق، في أن تعيد انتخابات ما، أو إحصاء دقيق، صياغة المحافظة وفق حقيقتها الديموغرافية، التي تشير، من بين ما تشير إليه، إلى أن ثمة أكراداً وتركماناً عراقيين يشكلون نسبة ستبدو مفاجئة حقاً، وقد تجعلهم الأغلبية في محافظة صلاح الدين التي يقترب عدد سكانها اليوم من نحو مليون نسمة.
إن تعداد نفوس محافظة صلاح الدين اليوم، ومساحتها التي تبدو واسعة، لا يعبران عن حقيقة إن تكريت نفسها التي لا تصلح عادة أن تكون اكثر من مدينة لأبنائها، بل إن إلحاق الأقضية الأخرى من المحافظات المجاورة، بخاصة تلك التي تشهد استقراراً اجتماعياً أو قومياً، مثل طوزخورماتو التي تقطنها غالبية تركمانية واقتطعت من كركوك لتلحق بتكريت، يلخص الطبيعة التي تغذت فيها المدينة على ما حولها لتتحول من أرض جرداء، إلى مركز لحاضرة لا تخلو من تنوع!.
وفي زحفها نحو بغداد، كانت تكريت ابتلعت في طريقها من الوديان الجرداء والأرض الرعوية شبه المتموجة، نحو بساتين النخيل على نهر دجلة في مداخل بغداد الشمالية، المحيطة بمدينة سامراء، التي كانت مركز الناحية وتتبع ولاية بغداد، والتي استأثرت بكونها المدينة التي تضم رفات إمامين لدى الشيعة، وسرداباً لغيبة المعصوم الثاني عشر، والمنتظر «ليملأ الأرض عدلاً».
وتضم مدينة سامراء عدداً كبيراً من العوائل التي ليس من السهولة أن تنسى إدراك أوتارها لدى تكريت، ولعل مناسبة صعود صدام للسلطة كانت أكبر مناسبة دموية للسوامرة، الذين أعدم من بينهم عدد من القياديين ممن كانوا يعترضون صدام السلطة، لعل أبرزهم عبد الخالق السامرائي الذي اقتيد من السجن ليعدم بتهمة التآمر على الرئيس.
لكن سامراء لا يمكن أن تنسى بسهولة أيضاً أنها يجري النظر إليها اليوم من خلال كتلة اجتماعية ومناطقية ترتبط بالنظام السابق في وقت تستطيع أن تقدم فيه مرافعة ادعاء مهمة في سياق محاكمة صدام، ومع هذا لا يمكن لسامراء في كل الأحوال أن تستمر بهذا الوضع البرزخي: إما دريئة لتكريت أو ممراً سالكاً نحو بغداد.
فـ«سر من رأى» أو «ساء من رأى» كما يجري تأويل اشتقاق اسمها، بتضاد دلالاته، تريد أن تتذكر إنها كانت في يوم من الأيام عاصمة لإمبراطورية تمتد حدودها من أوروبا إلى الصين، وذلك خلال خلافة المعتصم والمتوكل العباسيين، كما إنها لا تريد أن ينظر إليها من خلال ثلاثة عقود، فليس واقعها القومي المبرز هو من يمثلها، كما يبدو، لكن طابعها الإسلامي الذي ينظر كثيراً إلى التاريخ، سيكون مفصلاً مهماً في صياغتها الجديدة.
وعلى العموم فإن سامراء وتكريت ستكونان معاً هذه المرة، في انهما من المدن التي قد تواجه فيها قضية الانتخابات معضلة حقيقية ليست المقاطعة مكمنها الأساسي، بل حتى نتائجها التي قد تكون في بعض المناطق أخطر من مقاطعتها!.
عدد نفوس سامراء يتجاوز خمسة أضعاف نفوس تكريت كما هو إحصاء العام 1987، وأغلب الظن ان الانتخابات المقبلة إذا ما تم إجراؤها في محافظة صلاح الدين، ستشهد عودة سامراء الغائبة، مثلما شهدت مرحلة ما بعد صدام انكفاء تكريت على نفسها وبروز سامراء بوصفها عقبة صعبة ليس في الطريق بين العاصمة وعموم شمال البلاد، بل بين شعارات قومية تنحل تدريجاً وشعائر إسلامية تتسارع في الظهور.
الأرجح أن ثمة مدناً أخرى، في محافظة صلاح الدين، غير سامراء، كانت مغطاة تحت وقع اسم تكريت، ستنوب بأصواتها فوق تلك اللهجة التي طالما علت نبرتها على ما سواها.