إشكالية إصلاح أوضاع الشرق الأوسط الكبير مطروحة بقوة على نظر المفكرين المنتمين إلى هذه المنطقة، ومن لدن بقية عالمنا الكبير الذي جعلت منه تقنيات التواصل قرية واحدة. يدخل في المفهوم الواسع للشرق الأوسط الكبير عالمنا العربي الإسلامي الذي كثيرا ما يُذكر على أنه جزء لا ينفصل عن الشرق الأوسط، بل يُفهم على أنه هو المعنيّ وحده بهذا التعبير، خاصة منذ أن ثارت قضية إصلاحه من لدن الغرب، وبالأخص عندما ركّز عليه خطاب الولايات المتحدة منذ هجمة واشنطن ونيويورك الإرهابية، حتى لقد وُصف القرن الحاضر بأنه قرن 11 سبتمبر.
طرْح هذه الإشكالية فَرَض نفسه على المفكرين العرب والمسلمين، وعُقدت للنظر فيه ندوات علمية متخصصة دُعيتُ للمشاركة في بعضها، وساهمتُ أخيرا في مداولاتها التي جرت على شاشة قناة فضائية ناطقة بالعربية.
يمكن القول إن قضية إصلاح أوضاع الشرق الأوسط تتصدر القضايا العالمية إن لم نقل إنها قضية الساعة التي تملأ الدنيا وتشغل الناس (حسب التعبير العربي المشهور). فماذا كانت حصيلة الندوات واللقاءات والمناظرات التي تناولت إشكالية الإصلاح بالدرس والتمحيص؟ وهل انبثق عنها مخطط شمولي للإصلاح؟ بكل أسف لا يمكن الجواب على هذين السؤالين بالإيجاب. والمفكرون العاملون في ورشة الإصلاح لا يتحملون مسؤولية التعثر الذي مُنيت به الندوات واللقاءات التي دُعيت للنظر في الإشكالية المطروحة، بل المسؤولية ترجع أولا إلى تنوع انتماء هؤلاء المفكرين إلى مدارس فكرية لا تجمعها قواسم مشتركة تتيح التوصل إلى مخطط إصلاحي يحظى بالوفاق.
العالم الإسلامي العربي موزّع بين الانتماء الديني المتطرف الذي يعتبر أن الدعوة إلى الإصلاح دعوة استعمارية تمتطيها الولايات المتحدة لتركب ظهر هذا العالم وتمسك بمقوده بغرض توجيهه في مسارها، وأنها عملية تستهدف تغريب عالمنا ومسخه، وبين تطرف ديني يدعو إلى أسلمة المُغرب، وعلمانية متطرفة تنادي بتغريب المُؤسْلَم، وبين انتماء ديني معتدل (أو وسط) يعتبر أن مشكلة الإصلاح لا حل لها إلا تطبيق منهجية الوسطية، وأن للعرب والمسلمين في هذه الوسطية ملاذا ومنجى إذ “فيها ما يشفي ويُغني”، وبين الانتماء إلى منظومة الحداثة وما أكثر نزعاتها المختلفة: القومية، والعلمانية، والاشتراكية (وما أكثر أنواعها)، والشيوعية، وحتى العبثية، اعتبارا من الإيمان بالحرية التي لا تحد منها مسؤولية، ولا تعاق حركتها بقيود ولا حرية بدون مسؤولية.
مما لا شك فيه أن طرح الولايات المتحدة لمشكلة الإصلاح على أنه مشروع أمريكي جاء في سياق محاربة الإرهاب “الإسلامي”، وفي غضون الخلط بين الإسلام والإرهاب، والإرهاب والمقاومة المشروعة، واعتبار اعتماد هذا الخلط في مخطط الحرب التي شنها “بوش” على العروبة والإسلام. فكل ذلك كان وراء التعامل السلبي الذي لجأ إليه بعض المفكرين الإسلاميين لرفض التعاطي مع “المشروع الإصلاحي الأمريكي”. وعلى هذا اتكأ من رفضوا دعوة الإصلاح بحجة أنه شأن داخلي، وبذريعة أن على الأجنبي أن يترك الأمر لأهله. وضمن هذا الفريق انخرطت في هذا التوجه السلبي نظم سياسية عربية إسلامية لا تريد إصلاحا، أو تريده على مراحل متباعدة وتلتقي على الخوف منه، أو تراهن على تباطؤ الخطوات في مسيرة الإصلاح ليدخل الحديث عن الإصلاح في خبر كان، ويعمل بمقولة “كم من حاجة قضيناها بتركه”.
لا ينبغي أن يُفهم أنني أعيب على العالم العربي الإسلامي وجود ظاهرة التعددية الفكرية في محيطه، فأنا مؤمن أشد ما يكون الإيمان بالديمقراطية التعددية. إن الذي أعنيه ليس التعددية الخيّرة المعطاءة البناءة المتنافسة، بل هو التشرذم المذهبي المُعيق الذي يجعل من تعدد التصورات والتوجهات فسيفساءات فيها من كل زوجين اثنان، لا تجمعها ولا تربطها جامعة أو رابطة. وأومن بأن العمل على التخفيف من هذا التشرذم هو بداية الإصلاح، حتى لا تبقى هذه المذاهب المفرقة طيورا تغرد خارج سربها، كل منها يغني على ليلاه نغمة نشازا.
كما أومن بأن بداية الإصلاح الأخرى (وهذه هي المرحلة الثالثة) هي الاتفاق على أن الإصلاح شأن داخلي، لكن بشرط الإيمان بأن ساعته قد دقت ولا يمكن ولا يجوز تأخيرها. ومهما تكن نوايا الأجنبي الذي ينادي به، فذلك لا يخدش ولا يطعن في أهمية الإصلاح، ولا يقبل تأخيره بتعلّة أن الأجنبي قد دعا إليه: “فالحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها التقطها”، و”اطلبوا العلم ولو في الصين”. وعلينا أن نتناسى مصدر دعوة الإصلاح وطبيعتها لنخطط للإصلاح الذي نريده نحن، ولنجعله بذلك شأنا داخليا فعلا وقانونا نمارسه بمقتضى السيادة والاستقلال، ولنسد الفراغ الذي يستطيبه خصومنا لينفذوا منه إلى تولي إصلاحنا بدلا عنا.
وعلينا في مرحلة رابعة أن نتفق على ما نقصده ونريده من كلمة الإصلاح الذي يظهر أنه يكاد يكون له مدلول مغاير على كل لسان. بعض الندوات تحركت للتخطيط للإصلاح من شعار ضرورة التغيير، وبعضها طرح خيارين لاعتماد أحدهما: أنريد تغيير الثقافة أم نريد ثقافة التغيير؟ والتغيير في حد ذاته إنما يدل على تبديل واقع بواقع آخر، ولا حدود تضبط الواقعين. قد يكون التغيير من واقع سيّئ إلى واقع أحسن وأفضل، وقد يتم تغيير ما هو أفضل إلى ما هو سيئ أو أسوأ. أو بمعنى آخر قد يساعد التغيير على التقدم، وقد يكرّس التخلف. والمدارس الفكرية الإسلامية تختلف بين النزعة القائلة إن التغيير يعني تغيير الحاضر كله بالارتداد إلى الماضي كله، لأن الماضي يشكل أعظم عهودنا الحضارية، بينما الحاضر يمسخ حضارتنا ويعمل لاغتيالها. أما بعض النزعات الأيدلوجية المعاصرة، فتعتبر كل ما كان في ماضينا تخلفاً في المطلق، وكل ما يحفل به حاضرنا تقدما في المطلق. ولا وسط بينهما. وهذه من الجانبين أحكام مطلقة في حاجة إلى التنسيب والتخليق.
لكي تعطي الندوات الفكرية حول الإصلاح عطاءها المفيد، عليها أن تبدأ من البداية. ماذا نعني بالتغيير؟ لنتفق على ما يراد تغييره وما ينبغي أن لا يمسه التغيير. والتغيير يجب أن يستهدف تغيير الإنسان، فكل تغيير لا تكون بدايته ونهايته الإنسان لا يتجاوز السطحي إلى الأعماق، ولا يقفز على الأشكال من تشريعات وقوانين وتوصيات وخطب الوعظ إلى الجوهر والمضمون. والله في القرآن المجيد تحدث عن تغيير الإنسان كقاعدة للإصلاح: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” أي تغيير الذات.
وفي مجتمعنا العربي الإسلامي (وهو في معظمه غائص في التخلف) يجب أن يشكل ما يراد تغييره حجما أكبر مما يراد الإبقاء عليه. نحن في أشد الحاجة إلى بناء الإصلاح من خلال بناء صرحٍ عاتٍ جديد، وليس إلى ترميم صرحنا الموروث المتهالك المتداعي للسقوط. ومهما كان حرصنا على الاحتفاظ بخصوصياتنا وهويتنا وقيمنا (وهذا من حقنا وواجبنا) فلا ينبغي أن يصرفنا الاهتمام بخصوصياتنا المبالَغ فيه عن اعتماد إصلاح جذري لصرحنا القديم يتمظهر فيه انخراطنا في الحداثة والتجديد، لنصبح جزءا من عالم الحضارة المعاصر، عاملا فاعلا فيها، وليس فقط قيمة مضافة إليها، مستهلكة للحضارة وغير مبدعة في صنعها.
بالحديث عن الإصلاح والتطلع إلى الإصلاح نجد أنفسنا في صميم حركتي الحداثة والتجديد. فما بلي وتقادم في نسيجنا لا يجب الاحتفاظ به باسم الحفاظ على الخصوصية الثقافية والرصيد الموروث. وما أكثر ما تحتضنه ثقافتنا، ويحفل به تراثنا الفكري من قيم لا تبلى ولا تتقادم، نلتقي فيها مع الحضارة الغربية المعاصرة وعليه بنت هذه الحضارة أسسها!
إن الحضارة العربية الإسلامية لم تزدهر في عهد النهضة الإسلامية ولم تقد الحضارات المعاصرة لها التي أصيبت بالانتكاسة إلا عندما انفتحت على الحضارات القديمة وترجمت عطاءها الفكري العلمي إلى العربية، فطعّمت بذلك نفسها بروافد معرفية جددت لها شبابها وساعدتها على النمو والارتقاء، لأنها أصبحت تعيش حاضر عالمها. إن ذلك يعني أن يكون الهدف من التغيير اليوم هو الانخراط في حركة التجديد والتحديث. ولفظ الحضارة نفسه يشير إلى الحضور في الحاضر. وقد سجل التاريخ لحضارتنا الموروثة أنها مزجت بين الحاضر والماضي في عملية توفيق ناجحة، دليل ذلك أن الحضارة الإسلامية أصبحت بديلا في فترة تاريخية عن حضارة الفرس والرومان أو مكملة لهما.
أطرب لمقولة الشاعر العربي الذي اختصر في شطرين تعريف الحضارة فقارنها بالبداوة مقارنة الجديد بالقديم فقال:
حسْنُ الحضارة مجلوبٌ بتطْريةٍ
وفي البداوةِ حُسْنٌ غير مجلوب
الحضارة عند الشاعر العربي تعمل في الحاضرة (المدن الكبرى المنظمة)، ولها جمالها الذي يلوح عليه أثر الحاضر وهو جمال غير أصيل، لأنه مجلوب عن طريق التجديد الذي تحتاجه الحضارة عندما يعتريها البِلى والتقادم، فتستورد من الحاضر ما يجدد جمالها القديم عندما يعرف جلدُه الجفافَ والخشونة، فحينئد يصار إلى “تطْرِيته”، أي إلى تجديده ليصبح الجلد ناعما رطبا يتعانق فيه الجميل مع الجميل. أما البداوة أي الأصالة فجمالها غير المجلوب يبقى شاهدا على ماضيها، لكنه لا يُشرِق ولا يُضيء كما يشرق ويضيء الجمال الحديث. وما أشار إليه هذا الشاعر هو ما يسمى بلغة العصر تلاقح الحضارات، أو ما يعبر عنه بالتثاقف أو المثاقفة، أي التبادل الثقافي.
إننا لسنا في حاجة إلى استيراد ثقافة الغير لاستهلاكها استهلاكنا للأسماك المعلبة المستوردة، بل في حاجة أكيدة إلى أن نقوم بتغيير توفيقي بين ماضينا وحاضرنا، أطلقت عليه اسم تحديث الأصالة وتأصيل الحداثة. ويمكن الجمع بين المفهومين، ولكن بصعوبة بالغة لا يذللها إلا جهد علمي دقيق رصين. وليس بين المفهومين علاقة تضادّ، ولا علاقة ضرّتيْن متشاكستيْن لا يمكن اجتماعهما تحت سقف بيت واحد، بل علاقة تكامل مُغني ومُفيد.