العراق أرض رهانات كبرى. فمنه يعتبر جورج بوش أنه سيغيّر العرب والمسلمين والعالم. وانطلاقاً منه يعتبر الزرقاوي أنه سيفعل الشيء نفسه ولكن في الاتجاه المعاكس. على أن المشكلة، في الأمد المنظور، ان انتصار واحد من الاثنين لا يعني، بالضرورة، هزيمة للآخر.
لقد بادر بوش (يا للغرابة، لحقه طوني بلير!) إلى رؤية الانتخابات العراقية ضربة للإرهاب. هذا غير دقيق. فالزرقاوي، إذا كان هو الإرهاب، يستطيع الزعم أنه حقق أقصى ما يصبو إليه. فالجمهور الذي يعنيه قاطع بكثافة لافتة. وإذا كان آخرون شاركوا بكثافة فإنهم لم يفعلوا سوى تأكيد نظرة الزرقاوي إليهم بصفتهم lt;lt;روافضgt;gt; وlt;lt;علمانيينgt;gt; يجوز قتلهم. لقد أعلن أنه lt;lt;أفسد العرسgt;gt; لأن ما يهمه هو الإفساد لا العرس ولا أهله. لا يريد، أصلاً، الكسب السياسي لهذا الجمهور خارج نطاق الهداية. ويسعى، في أحسن الأحوال من وجهة نظره، إلى استدراجه إلى حرب أهلية. إن lt;lt;الزرقاويةgt;gt; هي عملية انتحارية جماعية تنفجر في العراق فتدمره، وتدمر، معه، المشروع lt;lt;الصليبيgt;gt; الأكبر بما يسمح لlt;lt;المؤمنينgt;gt; الذين تمثلهم lt;lt;القاعدةgt;gt; بأن ينهضوا في أمكنة أخرى أكثر استعداداً، ديموغرافياً، لحمل الرسالة. يستثني الزرقاوي، سلفاً، الأكثرية العراقية من احتمال الانضمام إلى مشروعه. لذلك فهو يعد المقاطعين لا المشاركين. ويمكنه أن يدعي أنه فاز في انتخاباته الخاصة بدليل تلبية الجمهور المؤهل الدعوة إلى الكفر بالدين الديموقراطي.
نحن، في العراق، أمام فائزين. الفائز الواقعي هو الأميركي. والفائز الافتراضي هو الجهادي. ثمة تنافس على الإنجاز إياه: المشاركة الشيعية والكردية هي دليل الديموقراطية التي حملها الاحتلال، كما أنها، في الوقت نفسه، دليل رسوخ الزندقة والكفر بما يستوجب تعزيز شأفة الاستئصال.
تعزز النسب المتفاوتة للمشاركة (أو المقاطعة) هذا الاستنتاج.
ولكن ثمة وجهاً آخر للصورة، ضمن نسبة المشاركة نفسها. هنا، أيضاً، يوجد فائزان. الأول، بالتأكيد، أميركا. ولكن الثاني هو إيران.
لقد أدى إسقاط صدام، بعد طالبان، إلى راحة إيران. ولكن ذلك حصل في ظل تصعيد الهجوم الأميركي عليها، وتهديدها، وتطويقها. لم تنجح طهران تماماً في أن تستثمر لصالحها الحدث الأفغاني. غير أنها تملك أوراقاً تجعلها تراهن على الاستفادة من الحدث العراقي.
لذا، وبعد التعرّف إلى نسبة المشاركة (معيار الفرز بين بوش والزرقاوي) يجب انتظار النتائج النهائية لتوضيح الحصص الأميركية والإيرانية. نضع الأكراد جانباً، لأن المعركة هي صراع أميركي إيراني على شيعة العراق. ومقياس توزع الحصص ليس انتقال مركز السلطة إلى طائفة الأكثرية بل طبيعة الأكثرية السياسية ضمن هذه الأكثرية العددية، وطبيعة المزاج المتحكّم بها حيال الوضع الإقليمي. فليس سراً أن واشنطن تريد انتصارها في العراق منصة هجوم ضد إيران، وسلاحها، ودعمها لlt;lt;الإرهابgt;gt;، وعدائها لأميركا. يرى بوش في العراق معركة في حرب تستهدف محطتها التالية إيران (بعد سوريا؟). إنه يضع نفسه، علناً، في موقع هجومي مهما بدا، لوهلة، أنه lt;lt;تورّطgt;gt;. إن الخطاب الديموقراطي رايته في هذه الحرب، وشيعة العراق، سياسة ونموذج حكم، أداة من أدواته.
إن الائتلاف العراقي الحاكم الجديد والنموذجي، من وجهة نظر أميركية، هو مَن يغطي ويشارك في المواجهات الإقليمية التالية. ولهذا فإن إيران يسعها الاكتفاء، في العراق، بما يلي: قدر من استمرار lt;lt;التورطgt;gt; الأميركي (من دون دعم الزرقاوي ونقل البؤرة الأفغانية إلى العراق)، قدر من تحرر شيعة العراق من نموذج الحكم الإيراني (براغماتية إيرانية سهلة)، وقدر من الحياد في الصراع الأميركي الإيراني. أي أن طهران تكتفي بأن ترفع السلطة العراقية الجديدة شعار lt;lt;العلاقات الجيدة مع الجميعgt;gt;. تكتفي بذلك لأن فيه قدراً من إحباط العدوانية الأميركية. وبهذا المعنى فإن lt;lt;الإيرانية السياسيةgt;gt; لبعض شيعة العراق مدخل إلى تعطيل المشروع الأميركي. وليس صدفة أن واشنطن، وحلفاءها المحليين، تراهن على زواج بين القومية الكردية وبين عروبة عراقية شيعية متعصبة ضد الجار الفارسي وليس ضد الاحتلال الأجنبي.
ستشهد مرحلة ما بعد الانتخابات صراعات lt;lt;المنتصرينgt;gt;.
الإرهاب الزرقاوي سيستمر. التنافس الأميركي الإيراني سيستمر. سيكون الأول معلقاً في الهواء وبالقدرة الذاتية على توجيه ضربات. أما الثاني فمرتبط بالسياسة، وموازين القوى، واحتمالات التفاوض والتسوية، إلخ...
هل يمكن، في هذه الحالة، إنتاج نصاب عراقي داخلي يرسم أفقاً؟
يتوجب الاعتراف بصعوبة ذلك في منعطفات تاريخية من هذا النوع. إن احتمال التوازي بين سكرة التماهي الشيعي مع السلطة القادمة وبين مرارة التماهي السني مع فقدان السلطة السابقة، إن هذا الاحتمال قوي وخطير. لا مخرج منه إلا بمطالبة كل فريق بألا يصدق وهمه الإيديولوجي عن نفسه.
على الشيعة ألا يصدقوا أنهم أكثر ديموقراطية من سائر مواطنيهم. إنهم، فقط، أكثرية. ليس أكثر ولو أنه ليس قليلاً. إنهم مطالبون بصياغة فهمهم للوطنية العراقية في هذا الظرف المحلي والإقليمي والدولي. يتناول ذلك أمرين على الأقل: صيغة lt;lt;التعايشgt;gt; مع الأكراد (الفدرالية)، وصيغة lt;lt;العيشgt;gt; مع السنة (المشاركة). ولكن هذا لا يكفي إذا اقتصر على إشراك المقاطعين في وضع الدستور والتمثيل في الحكومة. إنه يعني تعزيز دعوة المصالحة الوطنية، وأخذ العمق العروبي (المعادي لإسرائيل وأميركا لا لإيران) في الحساب. والمدخل لذلك هو عدم الانخراط في المشاريع الأميركية الإقليمية، والمطالبة بجدول زمني لانسحاب الاحتلال، وعدم الحياد في مواجهات بعض العرب مع إسرائيل (مواجهات لم تكلف العراق كثيراً لا في الماضي ولا الآن).
في المقابل على سنة العراق ألا يعتبروا أنهم أكثر وطنية من غيرهم. إنهم أقلية في البلد تجد في صيغة ممارستها الحالية للمقاومة تعبيراً عن رفض انتقال السلطة. إن الزلزال الذي ضربهم ليس بسيطاً ولكنه حصل ولا عودة إلى الوراء. العراق الذي نعرفه انتهى. تمر بلورة الوطنية الجديدة للسنة بامتحان الاعتراف بهذا الواقع. والاستنتاج من ذلك القطع الفوري، والكامل، والجذري مع تيار المقاومة العدمية، والبحث، مع الآخرين، عن الحد الأدنى المشترك لاستعادة السيادة العراقية من الأجانب وليس لاستعادة السلطة من عراقيين آخرين (فضلاً عن تهديدهم بالقتل). يتوجب على سنة العراق الافتخار بأنهم عنصر حاسم من عناصر عروبة البلد لا بالمعنى الصدامي السابق ولا بالمعنى الإقصائي. بكلام آخر، عليهم أن يرسموا خطاً أحمر للعودة إلى المشاركة هو الخط القائل بأن العودة إلى الاندراج في السياق الوطني الجديد مرهونة باقتراب شركائهم من دعوة الاحتلال إلى الانسحاب. إن تلاقي العراقيين، وفق هذه الشروط، يوضح أفق هذا الانسحاب.
من المبكّر استنتاج أي وجهة سيسلكها العراق. الاحتمال السيئ قائم بفعل التردي العربي، وزخم الاندفاعة الأميركية، والانقسامات الداخلية، واستمرار الانحياز الإجمالي إلى الفرضية القائلة بأن الفوضى هي بديل الاحتلال الوحيد. والاحتمال الأقل سوءاً قائم (الأقل حظاً؟). لكن شرطه أن تغالب كل فئة الميول التدميرية والاستئثارية لديها وأن تقهرها.
... هل من مكان للعقلانية في هذا البلد المعذب؟