كان مجتمعنا في نهاية السبعينيات والثمانينيات يمر بفترة انتقالية وانقلابية على مستوى كافة الأصعدة، الأمر الذي شكّل عند البعض صدمة حضارية، ورجعة ارتدادية نحو الخلف، لتتمترس حول مفاهيم اجتماعية قديمة وقيم عدت من الدين في زمن يفصل بيننا وبينه 1500 سنة، مختلف عنا وعن ظروف حياتنا ومعطيات عالم اليوم ومتغيراته واختراعاته والقوى التي تقوده وتسيّره، في حين شكّل عند البعض الآخر قفزة كبيرة إلى الأمام ونحو المطلق والفراغ والمبهم في الحياة، في حين بقيت فئة تدافع عن الحياة وتدافع عن الوجود وتدافع عن الحرية المسؤولة وتدافع للبقاء ضمن منظومة العالم المتحرر والجديد·
ولكي نخرج من دوامة التحليق الفلسفي في نمو الفكر غير السوي، نطرح سؤالاً وحيداً ترتكز عليه مبادئهم، لماذا أصبح الحل لدى هؤلاء المتطرفين الذين نموا في غفلة منا وعن المجتمع ذي الحقوق والعمل المدني هو الموت؟ أو بشكل أدق الإقصاء بقطع الرأس، وبتكفير الآخر، أو دفعه للهجرة إلى مجتمعات يعتقد أنه ينتمي لها كالمجتمعات الغربية، والبعض الآخر من هذه الجماعات المتطرفة اختار هو الهجرة للمجتمعات الكافرة لاعتقاده بمشروعية الجهاد الأكبر والأصغر هناك وبعظيم أجر الإصلاح وباستغلال الحرية التي توفرها تلك المجتمعات المتحضرة والمراعية لحقوق الإنسان بعد تجاربه المريرة مع بعض المجتمعات العربية والتركية المعسكرة سياسياً أو ذات النظام الشمولي وحكم الفرد·· لقد كانت حدود الإقصاء متعددة أقلها أن يهجرك هو معلناً تكفيرك وتكفير مجتمعك وأقصاها حمل السلاح والتحول إلى العنف والعنف المضاد وزلزلة أركان المجتمع من تحت، بالعمل الدؤوب والمستمر وباستغلال الفرص وحاجة الناس التي كانت بعيدة عن تفكير الحكومات، ومن فوق بالإعلان عن البراءة والدخول في مشروعية الحكم وتنصيب أمراء مجتمعين حولهم وحول آرائهم وينفذون أوامرهم ومتطلباتهم، قد يعمل أحدهم مدرساً أو صاحب مزرعة··
لقد كانت جدلية العلاقة بين السياسة وبين هذه الجماعات أنها كانت ترتكز على الاستغلال، الأمر الذي جعل الأشياء تصل إلى حرق العشب تحت أرجل المجتمعات والوصول إلى العنف والاجتثاث بعيداً عن الحوار والمنطق واختلاف مدارس الفكر، لقد استغلت السياسة حماس هذه الجماعات وقدرتها على تجنيد الانتحاريين مستفيدة من ظروفهم الاجتماعية القاسية، وحكم المجتمع من تحت بالويل والثبور وعظائم الأمور، وبثّ فيه روح الخوف والخنوع من كل شيء، بدءاً من النار والخطيئة والملكين القاعدين عن يمين وعن شمال وانتهاءً بالشرف المرتبط بالجنس وبالنساء فقط وبالعذرية، وبالحرمة والمحارم والحريم، بحيث غدا الشرف محوراً جنسياً متعلقاً بالمرأة التي تحته والتي توطأ والتي تحرم عليه، والتي وصى عليها النبي (ص) كجارة قريبة وجارة بعيدة وجارة ذات الجنب، والرفق بهن كقوارير، ثم تطوّرت المسألة لتصل إلى المسؤولية عن نساء المجتمع والبلد والوطن والحظيرة التي تنتمي إلى الدين.