سأل الرئيس الأميركي جورج بوش الزعيم الكردي جلال الطالباني عن المدينة العراقية، التي سجّلت أعلى نسبة تصويت في الانتخابات. أشرق وجه الطالباني بابتسامة عريضة، وأجاب: سليمانية طبعاً. التفت بوش إلى وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وقال: اضرب سليمانية بقنبلة نووية. ازدادت ابتسامة الطالباني إشراقاً، وهتف: "بس حضرة جناب رئيس، مدينة نجف سجّلت أصوات أعلى من سليمانية".
نكتة؟ أجل، وهي، كمعظم النكات تحتوي في داخلها على فكرة فلسفية، حسب الأديب الإنجليزي "تشسترتن". والفلسفة في هذه النكتة الكردية بسيطة "ما تحتاج فلسفة"، كما يقول العراقيون. فالانتخابات تكتسب شرعية بمقدار ما يخسر الاحتلال من شرعيته والعكس بالعكس. إنها "سلاح ذو حدين"، حسب إيفو داليدر، عضو "مجلس الأمن القومي الأميركي" في عهد بيل كلينتون. السؤال الآن في رأي داليدار هو: إذا كانت نسبة المصوتين في الانتخابات عالية فما سبب بقاء قوات الولايات المتحدة في العراق؟ هذا السؤال لن يُطرح على الرئيس بوش داخل وخارج الكونغرس الأميركي فحسب، بل خلال جولته المقبلة لإصلاح العلاقات مع دول القارة الأوروبية المعارضة للحرب. والجواب عن السؤال لا تحدّده الأصوات داخل ما يُسمى "المجلس الوطني"، بل انتفاضات المدن العراقية، وتمرد العاملين في القوات المسلحة، وانفجارات الألغام والبنادق والمدافع. برهنت على ذلك التطورات الرئيسية منذ "مجلس الحكم العراقي" السابق، الذي لم يقرر مصيره أعضاؤه، أو مؤسّسه بول بريمر، بل انتفاضات سكان مدينة الفلوجة ومدينة الصدر، وتفجير مقرّات السفارة الأردنية، والأمم المتحدة في بغداد.
ولتصوير خريطة الوضع القائم بعد الانتخابات عرض معلق تلفزيون الـ"بي بي سي" البريطاني رقعة لعبة "الأفاعي والسلالم". مربعات اللعبة مزروعة بسلالم قد ترفع اللاعب من القعر إلى القمة، وأفاعٍ قد تنزله من الأعلى إلى الحضيض. أول نقلة إلى الأعلى يوم الانتخابات أطاحت بها حوادث إسقاط طائرة النقل البريطانية "هيركوليس"، ومقتل 10 أفراد من القوات الخاصة، الذي كانت تحملهم، وهجمات انتحارية على مراكز التصويت أدت إلى مقتل 40 شخصاً، وقتل الأميركيين 4 أسرى عراقيين في معسكر الاعتقال قرب البصرة. أعقب ذلك إعلان الألمان والفرنسيين قرارهم بعدم المشاركة في مناورات حلف "الناتو" المزمع إجراؤها في العراق، وتأكيد هولندا المضي في قرارها سحب قواتها البالغ عددها 1400 تدريجياً في منتصف الشهر المقبل من محافظة المثنى، وقرارات مماثلة بسحب قوات تشيكيا والبرتغال المرابطة جنوب العراق، وخفض عدد قوات أوكرانيا وبولندا وهنغاريا، وصدور إشارات من إيطاليا ورومانيا بالانسحاب بعد الانتخابات.
ثناء الزعيمين، جاك شيراك الفرنسي وغيرهارد شرودر الألماني على الانتخابات لم يغير الموقف الأوروبي المعارض للحرب والاحتلال، ولم يقنع الأوروبيين بالمشاركة في إنقاذ الأوضاع القائمة في العراق، التي يعتبرونها محكومة بالفشل. وإعلان مسؤولي الأمم المتحدة عن إعجابهم بشجاعة العراقيين، الذين غامروا بحياتهم للتصويت "لم يحقق الشرعية للانتخابات، ولم يحل مشكلة الانفلات الأمني" في رأي الدبلوماسي الكيني سالم لون، مساعد مبعوث الأمم المتحدة إلى العراق سرجي فييرا دي ميلو، الذي قُتل في حادث تفجير مكتب المنظمة الدولية في بغداد عام 2003. وأكدّ مساعد دي ميلو، في مقالة في صحيفة "الهيرالد تريبيون" الأميركية "أن الطريق الوحيد لوقف تدمير العراق هو إنهاء الاحتلال وضمان مشاركة السنة، الذين يقودون المقاومة، لأنهم يرون كيف أن الولايات المتحدة تبعدهم بشكل منظم عن الدور، الذي يستحقون أن يلعبوه في العراق".
وينقسم المتعاونون مع الاحتلال في تقدير الموقف ما بعد الانتخابات بين متفائلين يعتقدون "ليس هناك حال أفضل من هذا الحال"، ومتشائمين يخشون أن "ليس هناك حال أفضل من هذا الحال". ولا يخفف التفاؤل، أو التشاؤم حدة الصراع على الحكم، الذي انطلق قبل عدّ الأصوات ومعرفة الفائزين، بل قبل التحقق من مشاركة العدد المطلوب من الناخبين في عملية التصويت. إطلاقة البدء صدرت من رئيس الوزراء المؤقت إياد علاوي، الذي أعلن يوم الاثنين أنه الرئيس القادر على جمع شمل العراقيين. لكن دعوة علاوي إلى وضع حد لانقسامات الماضي وتوحيد الصفوف اتخذت معنى معاكساً تماماً بين مرشحي قائمة "الائتلاف العراقي الموحد"، الذي يضم الأحزاب الشيعية الرئيسية، ويحظى بتأييد السيد السيستاني. فالائتلاف، الذي يضم الحزبين الشيعيين الرئيسيين، "المجلس الأعلى"، و"حزب الدعوة" مرشح للتصدّع باعتراف زعمائه. ويُعتبر الائتلاف، الذي يحمل اسم "البيت الشيعي"، حسب التعبير العراقي "لملوم"، يتكون نصف مرشحيه البالغ عددهم 228 من أفراد غير مرتبطين بأي حزب. ولن يضمن الفوز حتى بأغلبية الأصوات في المجلس المقبل تولي الائتلاف مسؤولية تشكيل الحكومة القادمة، الذي يقتضي الحصول على ثلثي عدد الأصوات. لتحقيق ذلك يتنافس زعماء القائمة الشيعية و"القائمة العراقية"، التي يرأسها علاوي على عقد صفقة مع الزعماء الأكراد، الذين يتوقعون أن تفوز "قائمة التحالف الكردستاني" بثلث الأصوات في المجلس. والسؤال هنا: كيف يمكن عقد صفقة للحكم مع الأكراد، الذين يشترطون الحصول على كركوك، وتأسيس النظام الفيدرالي؟.
وجلال الطالباني، كمعظم زعماء الأكراد صانع نكات حقيقية. نكتته عشية الانتخابات إعلانه عن حاجته، حسب صحيفة "الغارديان" البريطانية إلى من يشرح له كيف يمكن ملء استمارة الانتخابات. الاستمارة مكتوبة باللغتين العربية والكردية، ويصعب فهمها على الطالباني، الذي يصر على أن يتولى واحداً من أعلى منصبين في الدولة، رئاسة الجمهورية أو الوزراء.
والمتشائم الأكبر بالوضع القائم بعد الانتخابات غسان العطية، عضو فريق "مستقبل العراق" في وزارة الخارجية الأميركية، الذي وضع قبل الغزو بسنتين التشريعات "الديمقراطية" للعراق. ومع أن الحزب الليبرالي، الذي شارك العطية في تأسيسه خاض الانتخابات، إلاّ أنه غادر بغداد إلى واشنطن قبل أيام من الانتخابات، مُعلناً أمنيته بأن لا يفوز و"تتطلخ يداه بدم أي مرشح أو ناخب"!.
وذكر العطية في حديث مع صحيفة "نيويورك تايمز" أن "الانتخابات خطأ آخر ارتكبته واشنطن". وانتقد بمرارة عدم استجابة الرئيس الأميركي لالتماس إياد علاوي وزعماء سياسيين آخرين تأجيل الانتخابات. وقال إن التأجيل كان سيتيح التوصل إلى توافق مع البعثيين السابقين، ورؤساء العشائر، التي تدعم المقاومة. وذكر العطية، الذي ينتمي إلى أسرة شيعية عريقة أن الأميركيين بالغوا في تقدير قوة رجال الدين الشيعة، وبخسوا حق القوى "العلمانية" المكبوحة في عهد صدّام حسين. واتّهم "البيت الأبيض" باتخاذ "موقف متصلب من قضايا كان يمكن حلها بشكل أفضل بتفاهم العراقيين فيما بينهم". وذهب إلى حد تحميل بوش المتعنّت، ولعدم اعترافه بالخطأ، المسؤولية عن هدر دماء العراقيين والأميركيين. وحذر العطية، الذي رئس لفترة 20 سنة مركزاً خاصاً بالدراسات العراقية في لندن من أن الإيرانيين "أشد مكراً في هذه اللعبة من الأميركيين"، وتوقع أن تكرر إيران لعبة أفغانستان في العراق، حيث سيجد الأميركيون أنفسهم يقاتلون "طالبان" شيعة و"طالبان" سنة.