كان الكل متابعاً للانتخابات الرئاسية الأميركية الماضية، وكأنها انتخابات محلية تجري في بلده، وهي كذلك حقيقة حين النظر إليها من زاوية معينة. فالرئيس المنتخب لن يكون رئيساً للولايات المتحدة فقط، بقدر ما أنه سيكون رئيساً لكل العالم، وهذه حقيقة من حقائق السياسة في عالم اليوم، بعيداً عن مواقفنا الذاتية التي قد تتفق أو تختلف مع هذه الحقيقة. لا أحد يتابع الانتخابات البريطانية أو الفرنسية أو الألمانية أو اليابانية أو يهتم بها كثيراً من غير أهلها، أو المتابعين من ذوي الاختصاص، ولكن انتخابات أميركا تحظى بمتابعة الجميع، لدرجة أن الأطفال كانوا يعرفون كل شيء عن المرشحين.

كنت في أعماقي أتمنى فوز المرشح الديمقراطي، رغم تخوف الكثير من العرب منه، وسقوط المرشح الجمهوري، رغم الترحيب العربي به، حتى من قبل الليبراليين العرب على أساس أنه قد يكون عراب الديمقراطية في المنطقة العربية، أو من باب أنه اخف الضررين. كنت أتمنى سقوط المرشح الجمهوري وفوز الديمقراطي لأسباب لا علاقة لها بالمزايا الشخصية لكلا الرجلين، فكلاهما لم يكن يتمتع بأية جاذبية كارزمية مثل جون كينيدي أو رونالد ريغان أو بيل كلينتون، ولا أعتقد أن أياً منهم يمكن أن يكون رجل مرحلة، مثل فرانكلين روزفلت أو دوايت أيزنهاور أو ريتشارد نيكسون.

خلال حملته الانتخابية، كان المرشح الديمقراطي شديد الوطأة في انتقاده وهجومه على دول عربية لعل أبرزها السعودية، وذلك لأغراض انتخابية أثبتت أنها غير مؤثرة في الناخب الأميركي الباحث أساساً عن الأمن والرخاء، فيما كان المرشح الجمهوري أقل وطأة في هذا المجال، وإن لم يكن ليناً في أية حال، فهو صاحب مشروع الشرق الأوسط الكبير، وصاحب العصا الغليظة في أفغانستان والعراق.

أما بالنسبة لإسرائيل، فإنه لم يكن هنالك فرق حقيقي بين المتنافسين سابقاً، وهذا شيء معروف في الانتخابات الأميركية عموماً، ولكن بوش كان هو الأقرب لقلوب الإسرائيليين لأسباب تمتزج فيها السياسة بالثقافة، أو بالدين تحديداً. الكثير من العرب كانوا يؤيدون بوش لأسباب تتعلق بمنطقتهم، فهو قد وعد بدولة فلسطينية مستقلة.

ومن المفترض أن يكون أكثر تحرراً من قيود الترشيح مرة أخرى في فترته الثانية، مما سيعطيه مجالاً أوسع للتحرك في تحقيق ما نصبو إليه في هذه المنطقة، وخاصة بالنسبة للقضية الفلسطينية وقضية الديمقراطية بالنسبة للبعض، ونعود مرة أخرى لثقافة الانتظار. كلام قلناه وكررناه في كل انتخابات أميركية، يفوز فيها الرئيس بفترة ثانية.

والحقيقة أنه بنظرة جزئية معينة، كان يبدو أن بوش المحافظ أفضل من كيري الليبرالي عربياً، ولكن النظرة الكلية تقول العكس، حين تكون المرجعية وخطابها هي أساس التقويم. فالديمقراطيون عموماً، رغم كل الشعارات الانتخابية التي أرعبت البعض منا، كانوا مخلصين للمبدأ الأساسي الذي تقوم عليه الدولة الأميركية والدستور الأميركي بفصل الدين عن الدولة من ناحية، والتعامل مع السياسة على أنها ممارسة متعلقة بالقضايا العملية لا بالقناعات الإيديولوجية.

وبذلك هي خاضعة للأخذ والرد، المساومة والحلول الجزئية التي قد لا ترضي الكل تماماً ولكنها أفضل ما في الإمكان، من حيث أن السياسة في نهاية الأمر هي فن الممكن، وليست مشروعاً مطلقاً إما أن يكون كاملاً أو لا يكون. بمعنى آخر، جوهر السياسة، من منظور واقعي، أو لنقل مرجعية عملية، هو أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، كما تقول العرب.

عندما تكون المرجعية هي الواقع ومتغيراته، فإنه مهما كان القائل بها عنيداً أو متصلباً أو متعنتاً أو محباً أو كارهاً، إلا أنه يمكن في النهاية التعامل معه بهذا الشكل أو ذاك. فجون كيري اتخذ موقفاً في غاية التصلب من السعودية مثلاً، سواء في الحديث عن التخلص من «عبودية» النفط السعودي، أو في الحديث عن طبيعة العلاقة مع السعودية بعد أحداث سبتمبر. فالحديث عن السعودية تحول إلى حديث إثارة قبل أن يكون حديث حقائق ثابتة بعد سبتمبر، ولا مانع من استخدامه كورقة انتخابية إن لم تنفع فإنها لن تضر، ولو كان ذلك على حساب ذات الحقيقة.

ولكن، ورغم ذلك، فإن خطاب الرئيس لن يكون كخطاب المرشح، طالما كانت المرجعية السياسية هنا هي الواقع ومعطياته وحقائقه. فالرئيس سيجد نفسه مجبراً على التعامل البراغماتي، مهما كان الموقف المبدئي من هذه الدولة أو تلك، فالمصلحة تحتم ذلك، والمصلحة هي لب المرجعية السياسية العملية في العلاقات بين الدول، على عكس المرجعية الإيديولوجية الصرفة، كما هو الحال مع بوش وفريقه من المحافظين الجدد.

وعند الحديث عن المصلحة، فإن ذلك يسري على أشياء عدة، ليس من الضروري أن يكون النفط هو محورها. فالمصلحة القومية الأميركية تحتم إيجاد حل نهائي ودائم للقضية الفلسطينية، ومن هنا سيجد الليبرالي نفسه مجبراً على التعامل مع هذه القضية بما يخدم المصلحة القومية الأميركية أولاً، طالما كان واقع السياسة هو مرجعية السلوك. والمصلحة القومية الأميركية تحتم الحفاظ على استقرار بلد محوري في منطقة الشرق الأوسط مثل السعودية.

ومن هذه المصلحة تنبع طريقة التعامل مع السعودية، بالرغم من كل ما قيل في الحملات الانتخابية، طالما كان واقع السياسة الدولية هو المشكل للمرجعية المستند إليها في صنع السياسات المختلفة. بل حتى الديمقراطية، التي يضع البعض آماله في بوش من أجل تحقيقها في المنطقة، سوف تكون أكثر وضوحاً رسوخاً وعملية حين تقتضيها المصلحة، وليست نابعة من موقف إيديولوجي معين، تشكل فيه هذه الديموقراطية قالباً واحداً لا يتغير ولا يتبدل، أو جزءاً من رسالة مقدسة يجب قبولها طوعاً أو كرهاً، حين لا يكون للحق إلا شكل واحد ووجه واحد.

«إن المسيح»، يقول جورج بوش الابن خلال حملته الانتخابية الأولى، «هو الفيلسوف السياسي المفضل لدي.. إن المسيح هو الأساس الذي أعيش به حياتي، شاء من شاء وأبى من أبى»، فما الفرق بين هذا الخطاب وخطاب القاعدة مثلاً؟. قد يكون مثل هذا القول شعاراً انتخابياً الهدف منه كسب أصوات المتدينين في الولايات المتحدة، وهي الدولة المحافظة والمتدينة اجتماعياً بشكل عام، إلا أن تعامل بوش مع بقية العالم خلال السنوات الأربع الماضية التي قضاها في البيت الأبيض، بينت أنه رجل مؤدلج بالفعل، ينطلق من تصورات ذاتية لا من معطيات موضوعية.

ومثل هذا القول يتسق مع المرجعية التي تؤطر سياسة بوش وفريقه، وهي مرجعية تجد جذورها في تصور إيديولوجي معين لهذا العالم، بغض النظر عما يجيزه الواقع أو لا يجيزه. فالمرجعية التي تقوم عليها السياسة الأميركية اليوم، في ظل المد اليميني الجديد، تقوم على ذات الأسس المرفوضة لطالبان أو القاعدة، أو أي خطاب إيديولوجي مصاب بعمى الألوان، وكل خطاب إيديولوجي شمولي هو كذلك في النهاية، لا يرى إلا لونين: الأبيض والأسود، كما الثور في حلبة المصارعة.

مرجعية مخططي السياسة الأميركية اليوم هي تقسيم العالم إلى قسمين: هناك الشريرون وهناك الخيرون، ومن لم يكن من الخيرين أو معهم، فهو لا شك شرير أو يعد متواطأ معهم، وهو شرير بالتالي: ذات منطق القاعدة اليوم، والمعسكر الاشتراكي قبلاً، ومنطق كل كيان يقوم على خطاب وحدانية الحق، وأزلية وسرمدية الصراع بين حق مطلق وباطل مطلق، لا علاقة له بتغير زمان أو ظرف مكان.

وبالتالي فإنه ليس من المستغرب أن يصرح «جون آشكروفت» بأن: «الإسلام دين يطلب فيه الله منك أن ترسل ابنك ليموت في سبيله، أما المسيحية فهي عقيدة يرسل فيها الرب ابنه ليموت من أجلك». أن يكون الإسلام كذلك أو لا يكون، وأن تكون المسيحية كذلك أو لا تكون، قضية عقدية فيها نظر ليس هنا مجال مناقشتها. ولكن عندما يصبح مثل هذا التصور مؤطراً للعلاقة مع الآخر، وذلك حين تكون المرجعية حدية التكوين، قطعية الخطاب، بحيث تقوم على أساس من ثنائية مطلقة لا التقاء بين طرفيها، فهنا تكون الكارثة.

في مثل هذه الحدية وتلك القطعية، فإنه من الصعب الوثوق بصاحب الخطاب، طالما أن حديته هي الإطار الذي يحدد سلوكه. فنعم، قد يكون صاحب الخطاب اليوم مسايراً لك، اعتقاداً بأن موقفك يتماهى مع منطلقاته الحدية في هذه اللحظة من الزمان، وهذه البقعة من المكان، ولكن من يضمن أن يكون ذلك هو الوضع دائماً فيما لو اختلف الحال؟ من السهل التعامل مع الليبرالي البراغماتي والوثوق به في مثل هذه الحالة.

من حيث أن الاعتراف بالاختلاف هو ديدن خطابه من ناحية، ومن حيث أن الأحداث والقضايا وتغير الأحوال هو الذي يحدد نقاط الاتفاق والاختلاف من ناحية أخرى، وفق مقولة: «لكل حدث حديث»، على عكس صاحب المرجعية الحدية الذي يعكس مضمون المقولة السابقة، فتصبح «لكل حديث حدث»، وهو ما يتضح جلياً من تحليل مضمون مقولة دونالد رامسفيلد الشهيرة من أن: «المهمة هي التي تحدد الحلفاء، وليس الحلفاء هم من يحدد المهمة»، فالمرجعية هي التي تحدد السلوك، وليست المهمة هي التي تحدد السلوك، وهنا تكمن المشكلة. فالحق لدى الليبرالي نسبي، ومن هذه النسبية تتحدد مرونة المرجعية الليبرالية، على عكس المر��عية المحافظة التي لا يأتيها الباطل من أي اتجاه كان، فهي حق على الدوام، ومن ليس مع الحق فهو بالضرورة مع الباطل.

لقد اتفق الإسرائيليون والكثير من العرب على تأييد بوش، ولكن لأسباب مختلفة. العرب نتيجة موقف آنٍ ونظرة جزئية، لا تأخذ المرجعية اليمينية المحافظة الكلية في الاعتبار، وهنا قد تنقلب عليهم الأمور حين يجد بوش نفسه حراً طليقاً في ولايته الثانية، فيحاول تحقيق مفردات خطاب مقدس هو واثق من أنه الحق المطلق ولا حق سواه. أما الإسرائيليون، فتأييدهم نابع من انسجام المرجعيات، فكلتا المرجعيتين، الإسرائيلية واليمينية، تتحددان وتمتزجان بما بشر به العهد القديم، ضمناً أو صراحة، حقيقة أو مجازاً، تفسيراً أو تأويلاً، وهنا يكمن الفرق حين اتخاذ المواقف.

إسرائيل بالنسبة لليمين الأميركي الجديد هي كيان ديني مقدس، دعمه واجب امتثالاً لأمر الرب، بينما هي كيان سياسي استراتيجي مهم بالنسبة للديمقراطيين، ولكنه يبقى في النهاية كياناً سياسياً خال من القداسة، يتحدد دعمه بمعطيات سياسية واستراتيجية صرفة في الداخل والخارج على السواء، وعندما تنتفي هذه المعطيات، فساعتها يكون لكل حدث حديث. بين قطعية الخطاب ونسبيته، يكمن الفيصل بين موقف ينظر للبعيد، وموقف لا يتجاوز اللحظة. وفي الاختيار بين هذا وذاك يتحدد مصير المولود المرتقب: شقيا كان أم سعيدا.