المفكر السعودي ابراهيم البليهي الذي ظهر مؤخراً على قناة «العربية» الفضائية، في البرنامج الحواري التنويري: «اضاءات» والذي يقدمه الاعلامي المثقف، والمحاور المتميز تركي الدخيل، له نظرية في تفكيك بنية التخلف، تقوم على تأسيس «علم الجهل» وهو «جهل مركَّب» اي جهل الانسان بأنه جاهل، فهو يغتبط بجهله اعتقاداً بأنه على علم وحق، وان الآخرين على جهل وضلال.

يقول البليهي اننا لا نستطيع ان نعالج التخلف الا اذا اعترفنا بتخلفنا، ولذلك فهو يستكثر على مجتمعاتنا، وصفها بـ «المتخلفة» لان الوصف الشخص أو المجتمع بالتخلف، يوحي بأنه في حركة مستمرة الى الامام، فكأن المتخلف يركض خلف المتقدم وسيتمكن من اللحاق به وهذا غير صحيح بالنظر الى اوضاع مجتمعاتنا ولذلك فان البليهي يرى في وصف مجتمعاتنا بالمتخلفة نوعاً من المجاملة والتمويه وخداع الذات لان الاختلاف بيننا وبين المتقدمين نوعي لا كمي.

ولأن تخلفنا لا يعود الى تأخرنا في بداية الانطلاق، وانما يرجع الى جهلنا بنقطة البداية او بسبب رفضنا تلك البداية توهما بأننا في القمة مهما تدهورت اوضاعنا وهم في القاع مهما حققوا من تقدم.

مثل هذه المجتمعات تعاني من حالة تخلف مركب، فهي سعيدة بتخلفها، مغتبطة بثقافتها، معتزة بعاداتها، متوجسة من ثقافة غيرها، مستريبة في مخططات الغير، تدعو الله ان يحميها حسد الحاسدين وشر الكايدين وتآمر المتآمرين، هكذا تتوهم مجتمعاتنا كما يتوهم الاسكيمو في القطب المتجمد، وقبائل هضبة التبت في صحاري آسيا، ومثلهم كل مجتمع منغلق يجتّر التغذية نفسها ويرفض أية تغذية طارئة.

وفي رأي البليهي ان هذه الغبطة الواهمة، هي القلعة الفولاذية التي تتحصن بها بنية التخلف وتستحكم، فهذه المجتمعات محكوم عليها ان تبقى في نفس اوضاعها ولن تلحق ابداً الدول المتقدمة حتى تغير اوضاعها: مصداقاً لقوله تعالى : «ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» راجع مقابلته مع الزايدي ، الشرق الاوسط 14/11/2003 ليسمح لي البليهي ان استعير نظريته، لتوظيفها في «الظاهرة الارهابية» لم تكن قضية الارهاب تشغل الخليج قبل عقدين ونصف.

كانت مصر والجزائر منكوبتين بالعمليات الارهابية، بينما كان هاجس الخليج يتركز على الاخطار الخارجية الناجمة عن الحرب بين ايران والعراق وعلى اختلال موازين القوى لصالح احد الطرفين مما يهدد الترتيبات الحدودية الموروثة ويخل بالنظام الأمني الاقليمي، ووجد الخليجيون في مجلس التعاون القاسم الجماعي المشترك امام تلك الاخطار، وكان الخطر منبع من الداخل هذه المرة، ونما وتصاعد في غفلة منا، بدأ في السعودية ثم امتد الى الكويت ومؤخرا الى قطر.

من أين أتى هذا الارهاب؟ وما الذي حبّب شبابنا في الموت والانتحار؟ لماذا يفضل الموت على الاستسلام للسلطة؟ لماذا انقلبوا على مجتمعاتهم واصبحوا قنابل موقوتة ضدها؟ لماذا استحلوا دماءنا ودماء اطفالنا ونسائنا؟ كيف ترسخ هذا العنف والعدوان في نفوسهم؟ ماهي تلك العقيدة الغلابة التي تدفعهم للتضحية بانفسهم، وما اهدافهم؟

تلك هي اسئلة التحدي، اسئلة تتحدى اساليب التنشئة ومناهج التعليم وطرق الدعوة والتوعية الدينية والاعلامية. هناك اجوبة جاهزة ومحفوظة وتبسيطية يرددها كثيرا، التحالف الايدلوجي الجديد، الجامع لأعداء الأمس، القومي واليساري والاسلامي عبر فضائياتنا ومنابرنا وصحفنا: انها قضية فلسطين، انه احتلال العراق،انها السياسات الاميركية المنحازة، انه الوجود الاميركي في المنطقة، انه التآمر الخارجي علينا، انه اذلال العرب والمسلمين، انه ذبح المسلمين في افغانستان والشيشان وكشمير، انه الكيل بمكيالين.

وقد طربنا كثيرا لانشودة الكورس الحزين: المظالم، القهر، البطالة، غياب الحريات، الاحباط كأسباب للارهاب، ولطالما ردد بعض المسؤولين والمشايخ بان هؤلاء قد غرر بهم وغسل ادمغتهم «الموساد بن سبأ» وسمعنا بمن يستخف بالارهاب بحجة انهم شرذمة قليلة وانه مجرد فيروس عابر، كل تلك التعليلات تمثل نوعاً من خداع الذات وتبرئتها وهروبا من تحمل مسؤولية الاعتراف بان هؤلاء الشباب هم أبناء تعليمنا وتثقيفنا ومنابرنا الدينية والتربوية، لا يريد هؤلاء ان يعترفوا لا بالظاهرة الارهابية ولا بالمسؤولية عنها، إنه اذن «الجهل المركب» الذي تحدث عنه البليهي في موضوع التخلف.

هؤلاء يجاهدون في تبرئة المناهج التعليمية والمنابر الدينية والاعلامية من خلق بيئة تحضن الفكر الارهابي ويستميتون دفاعاً عن سياسات وأوضاع واساليب ازمنت وطالت اكثر من نصف قرن، وقد اخفقت في تحصين شبابنا امام اخطار الفكر المنحرف، كانوا مشغولين بالصراع والمواجهة، يحاربون الغزو الفكري من الخارج فأتاهم الغزو من الداخل.

الامور تقاس بنتائجها، والشجرة اذا اعطتك ثماراً مُرة فلا تلم الشجرة ولا الشمس ولا القمر ولكن انظر اين زرعتها؟ وكيف سقيتها؟ وبم غذيتها؟إنه تحليل ساذج ومخل ان نربط الارهاب بقضية فلسطين او بما يجري في العراق او بالوجود الاميركي، اميركا قوة عظمى موجودة في المنطقة منذ الثلاثينات ومن قبل الارهاب ومن بعده والمصالح تقتضي وجودها، وهي موجودة بخيرها وشرها في كل بقاع الارض حيث مصالحها، وهي لن تغير سياساتها مهما شتمنا فيها وحرضنا عليها ومهما دفعنا اولادنا الاشقياء للانتقام منها، وفي كل الاحوال نحن الأخسرون وأبناؤنا هم الضحايا قبل الآخرين.

أميركا لها مشاكلها في كل بقاع الارض وهناك انتقاد لسياساتها وشكوى من تصرفاتها ولكنهم لا يحرضون اولادهم على كراهيتها ولا يدفعونهم لارتكاب حماقات ضدها كما نفعل نحن عبر منابرنا الدينية والاعلامية من شحن مستمر ضدها. الارهاب لا علاقة له بالتوترات الدولية ولا بمطالب الاصلاح والديمقراطية في الداخل، هو مشكل فكري قبل ان يكون سياسيا او اقتصاديا او اجتماعيا، وكل من يربط الظاهرة الارهابية بالاصلاح السياسي او الاقتصادي لا يقرأ البنية الفكرية للارهاب صحيحا.

وقد يرتب نتائج كارثية، الارهاب اساسه فكر عدائي يستسهل تكفير الغير الى حد تصفيته، والانسان لا يفجر نفسه الا من اجل هدف نفيس، فالتفجير اساسه عقيدة التكفير التي تستقر في نفسية متوترة لا تستطيع ان تنسجم مع تحولات المجتمع ومتغيرات العالم بفعل خطاب تعليمي وديني واعلامي: تحريضي، تعبوي، عدائي ضد الآخر الغربي المتفوق وحضارته المسيطرة وقيمه المنتشرة في الوقت الذي يرسخ في نفسية هذا المراهق تصوراً طوباوياً لماض مجيد وزاهر وقوي غلاب امتد ليحكم المعمورة وهو الآن يجد حاضره بائساً خانقاً تابعاً للآخر المنتصر.

ان الارهاب في التحليل النهائي ليس موجها ضد الآخر وان استهدفه، انه موجه ضد الذات ـ اساساً ـ انه انتقام الذات الجريحة من نفسها، من حاضرها الذي تدهور بعد ان كان عزيزاً، انه صوت الماضي القادم من اعماق التاريخ محتجاً، لا علاقة للارهاب لا بالشرق ولا بالغرب، انه الفرار من هذه الحياة البائسة الى حياة اخرى افضل واشرف.

نعم لقد اخفقنا في تحصين ابنائنا امام الفكر المنحرف، لم نحببهم في الحياة، زينّا لهم الموت وقلنا لهم اذهبوا وجاهدوا في افغانستان والشيشان والعراق فالجهاد اسمى امانينا .. ثم رجعوا ليجاهدوا فينا. في استفتاء (إيلاف) الالكترونية، قال 52% نعم على سؤال: هل قطع الرؤوس في العراق من أعمال المقاومة؟ وقال 60% نعم على سؤال: هل توافق على فتوى قتل المدنيين في العراق؟ في استفتاء لصحيفة «الاتحاد» الاماراتية. نعم المواجهة الامنية ناجحة ولكن الفكر الارهابي سيبقى ما دام الجهل المركب باقيا.

ـ كاتب قطري