ليس هناك من نظام عربي شمولي إلا وسوق زعيمه باعتباره عبقرية لم يجد الزمان بمثلها من قبل، ولن يجود بها من بعد، تقرأ الممحو ولا تفوتها شاردة أو واردة، لكونها تسبق عصرها وكل عصر في العلم والفهم. يميز كيسنجر، وزير خارجية أمريكا الأسبق، بين ثلاثة أنماط من الزعامة: نمط بيروقراطي يعمل وفق منطق ومقتضيات الواقع، الذي كثيرا ما تفوته بعض جوانبه. ونمط شمولي يجبر الواقع على أن يكون كما يريد له، ونمط غريب عجيب سميته عبقريا للسخرية منه يقول للواقع كن فيكون، فهو لا يحتاج إلى معرفته، أو حتى إلى معلومات عنه، لأنه ينطلق من إرادته.

تزعم الدعايات الرسمية أن العباقرة من حكامنا معصومون لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم أو من خلفهم، لأنهم يمسكون بأعنة التاريخ ويقرؤون الغامض والمجهول، ويعرفون، دون جميع خلق الله، سكة السلامة من سكة الندامة، ويقودون شعوبهم وبلدانهم ومجتمعاتهم على السكة الأولى، كي لا تسير بقوة فطرتها وتصاريف القدر على السكة الثانية، وتضيع مثلما ضاع كل شعب ومجتمع لم يقيض الله له عبقريا يقوده ويسدد خطاه ويشرف على مسيرته.

واليوم، يبدو كأن زمن العباقرة انتهى، وان أحدا لا يذكرهم بغير السوء، بعد أن بان حجم المشكلات، التي تسببوا بها وخلفوها وراءهم في كل دائرة وصعيد، وتبين أنها تهدد وجود النظم التي أقاموها والبلدان التي حكموها، وتجد نفسها غارقة في أزمة عامة متنوعة الأوجه وطيدة الأركان، يحار العرب كيف يتعاطون معها ويتخلصون منها، لأنهم لا يجدون في أبنية السلطة العربية “الحديثة” أدوات ووسائل تساعدهم على التصدي لها، بينما تتفاعل عناصرها بطريقة تجبرهم على التخلي عن آليات عمل وتوازنات داخلية كانت تعد إلى البارحة ضرورية لاستمرار النظام والحكم، لكنها انهارت بانهيار أوضاع بلدانها الخارجية، وتعزز عزلتها عن محيطها العربي وعن قسم كبير من بلدان العالم، ودخولها في تجاذب أو صراع مع قوى عظمى وكبرى سبق لها أن صنعت النظام العربي في سبعينات القرن الماضي ومنه نظم العباقرة ذاتها، فليس باستطاعتها، وهي على ما هي عليه من تهالك وضعف، كسب هذه الصراعات من جهة، أو بلوغ تسوية مع الخارج من جهة أخرى، نتيجة لعزلتها عن مجتمعاتها، التي أخرجها العباقرة من السياسة بالقوة والإكراه، ولاختلال موازين القوى اختلالا مخيفا لمصلحة خصومها الإقليميين والدوليين، وخاصة منهم أمريكا: الدولة التي تقود النظام العالمي، وتهدد النظم التي أنتجها العباقرة بسيف القوة أو سيف الديمقراطية، في حين تخنقها معضلات داخلية مستعصية تشمل قضايا تكاد تكون مستحيلة الحل، بدءا بالبطالة الواسعة، التي تشمل أساسا المتعلمين من الأجيال الجديدة، مرورا بأزمات تغطي كل موقع وصعيد، وصولا إلى أزمة السلطة والدولة والمجتمع والحكم المفلس، الذي صارت معالجة أدوائه مستحيلة بغير مشاركة شعبية ونظام ديمقراطي بديل، يعني قيامهما نهاية زمن العبقرية.

أين كمنت عبقرية الحاكم الشمولي، إذا كان قد ترك وراءه مشكلات أرهقت الدولة والمجتمع وقيدت السلطة، التي وضع أسسها وأقامها، لكنه قوضها في الوقت نفسه، لشدة ما جعلها شخصية وغريبة عن مواطنيها؟ أعتقد أن العبقرية المزعومة كمنت في نجاح النظام الشمولي في إخراج مجتمعه وشعبه من السياسة، وفي إرهابه ودفعه إلى الامتناع عن ممارسة أي دور عام مهما كان ضئيلاً، بعد أن نجح في الانفراد بسلطة، أبطل بواسطتها الدولة والمجتمع والشأن العام. واليوم، وبعد سقوط العبقرية، تجد هذه السلطة نفسها في مأزق لا يستطيع إخراجها منه أحد غير مجتمعها وشعبها الذي لا يمد لها يد العون لأنها أفقدته باضطهادها وقمعها أهليته السياسية، وجعلته ميالا إلى الانتقام منها بدل إنقاذها. وهذه حقيقة فيها من العبر ما فيها، تخبرنا أن العبقري، الذي قضى على مشاركة شعبه في الشأن العام أفقد نظامه السند الداخلي الذي قد يحميه ذات يوم، ومهد بأفعاله هذه للقضاء على نظامه، ولسد سبل خروجه من مآزقه، فكان عبقريا في تأسيسه وقتله.

مثلما توقع عرب كثيرون: انتهى زمن العبقرية إلى زمن البؤس، وصار مطلوبا، من اليوم فصاعدا، أن يبادر المواطن العادي إلى إخراج وطنه من كوارث أوقعوه فيها، فهل يستعيد مبادرته ودوره في الشرط التاريخي الجديد، أي بعد سقوط العباقرة وعودة الروح إلى الإنسان العادي، أم يستمر في سلبيته، فتواصل بلداننا العربية السير في طريق الموت، الذي رسمه لها وفرضه عليها العباقرة، فيبقى عندئذ تأثيرهم حتى بعد اختفائهم وانصرام زمانهم، ونكون حقاً أمة عجيبة غريبة بين الأمم!

* كاتب سياسي سوري