في أبريل 2005 مرت الذكرى المئوية للتطهير العرقي للأرمن في تركيا، ومن لم يعش في سوريا ولبنان لا يعرف نكبتهم، وأنا رجل ولدت في القامشلي، وهي مدينة تقع على خط الحدود مع تركيا تماماً، فلا يفصلها عن نصيبين المدينة التركية إلا منطقة (البدن) حيث كنا نرى بقايا المدافن الرومانية، ولا تبتعد عن العراق كثيرا، فهي في الزاوية الشمالية الشرقية من سوريا حيث تختلط الأمم والنحل بأشد من الحابل بالنابل. وأذكر من طفولتي أنه كان يزورنا رجل طاعن في السن، على وجهه نظارات غاندي، وعلى رأسه طربوش أحمر تركي عتيق، فيروي لنا ذكريات شبابه من العسكرية التركية. كنا نسمع بدهشة ورعب، كان يقول: كانوا يأتوننا ـ أي الأرمن الأسرى ـ أرتالاً في قوافل، وكانت جدتي (ماما ريا) رحمها الله تؤكد كلامه بكلمة "قفلات" وتعني بذلك (القوافل). كنا نحدق واجمين في عيني (مصطو) الغائرتين وهو يروي. قال: كنا نطعنهم بالسونكي (حربة البندقية) في البطن ثم نرمي بجثثهم في بئر؟ قال: في يوم جاءتني امرأة فأرتني (هويات) لجنود أتراك قتلهم الأرمن. قالت له قد فعلنا هذا بكم فافعل ما بدا لك فعاجلها بالسونكي. كان هذا عند المجند (مصطفى) مبرراً كافيا لقتلهم رجالا ونساءً وأطفالاً. ومما عرفنا من قصص الثقافة المحلية أن حملة "القفلات" لم تنته عند الأرمن؛ بل قفزت إلى المسيحيين عموماً.

وهذه القصص ليست من بنات الخيال بل إن عائلتنا أصابتها شظايا من هذا البركان، فقد كانت نساء الأرمن سبايا مستباحات فعمد رجل أتحدر من نسله أنا الآن، إلى فتاة كانت برفقة أمها وأخيها الصغير، راقته جدائل شعرها الحمراء الطويلة فرحمها وأخذها زوجة له ومعها أخوها الصغير. فأما (الأخ الصغير) فقد انتسب لعائلة البيطار في دمشق وتزوج وأنجب واجتمعت بحفيده الأرمني لأفاجأ بأنه أصبح عضوا في الحزب القومي السوري؟ وأما الفتاة الجميلة ذات الشعر الأحمر التي فصلت عن أمها فكانت دموعها تنهمر على خدها حينما تذكر أمها؛ فقد أسلمت وكانت تصلي بخشوع، ثم ماتت بعد عمر طويل، وأنجبت طفلا أصبح الولد المدلل لأبيه؟ الأرمن يقولون إنه قتل منهم مليون ونصف والأتراك ينكرون هذه الأرقام، وفي أيام سبقت حاول الأرمن بعمليات انتحارية أن ينتقموا من الأتراك بكل سبيل، ولكنهم راهنوا على قضية خاسرة، والمسألة فيها شقان سهل وصعب: فأما السهل فأن تعتذر الحكومة التركية للشعب الأرمني عن هذه الفظاعات ومن طرف واحد، ولكن الشق الصعب هو المطالبة بالتعويضات. والألمان دفعوا من التعويضات لليهود جبالاً من الذهب، ولكن تركيا المفلسة ليست مثل ألمانيا المترفة، وما حدث في مذبحة الأرمن لا يعفي الأتراك، ولكنه لا يقول إن الأرمن هم الحمل الوديع، فالحروب الأهلية تبدأ من شرارة بسيطة من نفوس محتقنة، كما تبدأ الحرائق من شرارة في غابة جافة في صيف ملتهب تضربه ريح مجنونة. وحين يقع تمرد مسلح في دولة سواء تركيا أو سواها، فهذا يعني أن الدولة أصبحت على كف عفريت، فتشتد الدولة في القمع، باعتبار أن وظيفة الدولة الأولى هي (الأمن) وبكل سبيل وبالدم. وما حدث في تركيا حدث في سوريا ورواندا والصومال، وسوريا مثلاً يمكنها اليوم أن تقدم اعتذارا علنياً لأهل حماة عن كارثة 1982، مع المباشرة بوضع لجنة (المصالحة والحقيقة)، كما جرى ذلك في جنوب أفريقيا، ويوضع نصب بأسماء القتلى من كل الطوائف أن لا عودة مطلقا لهذه الحماقات، كما فعلت بلدية هيروشيما حينما غيرت اللافتة في الساحة الرئيسية: (لن ندع الشر يتكرر) إلى (لن نعيد ما حدث). فأي حدث هو تفاعل عناصر متعددة، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم.

إن قدرة نقد الذات مؤشر لنضج الذات، ولكن بيننا وبين هذا الارتفاع مسافة من الطاقة الروحية لا نملكها، ولا يمكن للأتراك المفلسين روحيا وماليا أن يعوضوا لا بكلمات الاعتذار ولا بجيوب مفلسة.