قامت الدنيا ولم تقعد، لأن اليابان أصدرت كتاباً مدرسياً جديداً يقفز عن الآلام، التي سببها جيشها لشعوب الشرق الأقصى، وخاصة في الصين وكوريا، قبل وخلال الحرب العالمية الثانية. وحدثت مظاهرات شعبية صاخبة رافقتها تصريحات رسمية غاضبة، طالبت اليابان بمنع تزوير التاريخ، وسحب الكتاب، والاعتذار لضحاياها، وإلا كانت القطيعة ردهم على العنصرية والازدراء، اللذين تعامل بهما تلك البلدان. بعد قليل من الأخذ والرد، علمنا خلاله أن اليابان دفعت ثلاثين مليار دولار إلى الصين، تعويضا لها عن تلك الحقبة، وقف رئيس وزرائها يعتذر من جديد، فكان اعتذاره ثاني أو ثالث اعتذار خلال السنوات العشر الماضية، بينما شاع تحليل يرى أن القضية استخدمت للتدليل على ما بلغته الصين من قوة في آسيا والعالم، وعلى أن بكين أرادت اعتذاراً يابانياً لتجعله مدخلها إلى دبلوماسية دولية جديدة، تمكنها من منافسة الأقوياء، مهما كان نوعهم، بما أنها غدت شريك اليابان وأمريكا التجاري الأول، وأرادت البرهنة على أنه صار بوسعها الضغط بفاعلية حتى على الأقوياء.

اعتذر الألمان بدورهم لليهود، الذين قتلتهم النازية، مع انهم لم يكونوا مواطنين “إسرائيليين”، لأن “إسرائيل” لم تكن موجودة أصلاً، ورغم أن النظام النازي قتل مقابل كل يهودي عشرة مواطنين من بولونيا وفرنسا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ورومانيا وروسيا وهولندا وبلجيكا وإنجلترا واليونان والنرويج وإسبانيا وإيطاليا... الخ، لكن أحدا لم يعتذر لهم. بل إن ضمير ألمانيا أنّبها إلى درجة جعلتها تدفع تعويضات سخية جداً، يؤكد الخبراء أن قيام “إسرائيل” صار أكثر يسراً وسهولة بفضلها، وأنها لم تقتصر على المعونات الإنسانية، إلا إذا كانت الدبابات الثقيلة والمدافع الأثقل والطائرات الحديثة مما يأكله أو يلبسه البشر، وخاصة منهم ضحايا الحروب والمجازر الجماعية. وللعلم، فإن قيمة المساعدات المالية الألمانية وصلت حتى عام 1965 إلى مائة مليار مارك ونيف، دفع كثير منها ليهود لم يكونوا مواطنين ألمانا، ماتوا بشكل طبيعي في روسيا، أو في مناطق ما وراء القوقاز، خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها بفترة طويلة.

لم يعتذر الألمان وحدهم، بل اعتذر خلق كثير ولعنوا الساعة التي ولدوا فيها، لأن اليهود عذبوا وقتلوا في بلدان وسط أوروبا وشرقها إبان الحرب. كما اعتذرت الكنيسة الكاثوليكية عن صمتها على مجازر النازية، ثم برأت اليهود من دم المسيح، وأبطلت عملياً مقاطع من صلواتها تقول إن دم المسيح عليهم وعلى أبنائهم، قبل أن تشكل لجان حوار ديني مع صهاينة موصوفين، من أجل تفاهم لا تهزه الأيام وتغيره الدهور.

ظهر العداء للعرب والمسلمين في القرن السابع الميلادي، ودأبت المؤسسات الدينية على جعل أتباعها يكرهونهم منذ ذلك الوقت. صحيح أن علاقة الجانبين اتسمت بالمد والجزر، وأن كلا منهما حاول التغلب على الآخر، إلا أن العرب والمسلمين أقلعوا منذ القرن العاشر عن التحرش بما صار يسمى الغرب، وخضعوا أكثر فأكثر لغزواته، التي تلاحقت منذ غزو الفرنجة لمشرق الأرض العربية ومغربها، وخاصة منها فلسطين، وانتهت بحملة استعمارية حديثة في القرن التاسع عشر، أخضعتهم طيلة مائتي عام ونيف، بعد أن بدلت توازنات القوى التاريخية لغير صالحهم، ودفعت بهم إلى حال من التأخر والضعف، فاقم ما كانوا عليه من تخلف وركود وانقسام، وحالت بينهم وبين أن يكونوا طرفاً فاعلاً في تاريخهم وتاريخ العالم الحديث، إلى أن انتزعت منهم فلسطين عبر جهد دولي منظم ومذابح صهيونية متتابعة، بلغ عددها 13 مذبحة ذهب ضحيتها آلاف النساء والأطفال والشيوخ والعزل، وتم تشريد خمسة أسداس شعب فلسطين وطرده من وطنه، بعد أعوام قليلة من قيام الجنرال اللنبي، قائد الجيش البريطاني/ الحليف للعرب في الحرب ضد تركيا، برفس قبر صلاح الدين الأيوبي بحذائه عام 1918 ومخاطبته بالجملة الثأرية التالية : “ها قد عدنا يا صلاح الدين”!

لماذا لم يعتذر لنا أحد، مع أن كثيرين منا طالبوا البابا بتصحيح معلومات سلفه أوربان الثاني، بابا حروب الفرنجة ومتعهدها الرئيسي، الذي حرض دهماء أوروبا آنذاك على تحرير قبر المسيح من أيدي “شعب فارس الكافر” في أول خطبة له في مدينة كليرمون الفرنسية؟. ولماذا لم يعتذر لنا الفرنسيون والإنجليز والصهاينة، بل يطلب إلينا نحن الاعتذار إليهم، تارة لأننا لسنا ديمقراطيين، وطوراً لأننا لم نسمح لهم بالقضاء على آخر واحد منا في فلسطين وغيرها من ديار العرب والمسلمين، ولأنهم فشلوا في الحيلولة دون وقوع ضربات إرهابية ضد بلدانهم، كأن حياتنا بلا قيمة، أو كأننا مسؤولون حصرا عن حياتهم وأمنهم، أو كأنهم لم يدعموا عندنا غير النظم الديمقراطية، التي يهيم حكامها بالحريات، ويسجنون مواطنيهم لأنهم لا يريدونها، مع أنهم لم يقصروا يوما في التنكيل بنا، ولم يتركوا وسيلة إلى قهرنا إلا واتبعوها، كحرقنا مئات الآلاف منا بالكلس الأبيض ونحن أحياء في الجزائر، وقتلنا بالجملة والمفرق في بلدان عربية وإسلامية كثيرة، والاستيلاء على أوطاننا وتغيير هويتها في فلسطين، وأخيرا استخدامنا في تجارب تمتحن ما بلغته أسلحتهم من بطش وفتك، في العراق ولبنان وفلسطين اليوم، وبقية بلداننا غدا.

لماذا يعتذر اليابانيون للصينيين والألمان وبقية الأوروبيين ل”إسرائيل”، ولا يعتذر أحد لنا؟ لا يحدثني أحد عن ازدواجية المعايير، فقد كانت هناك ازدواجية معايير على مر التاريخ. الجواب الصحيح، الذي يكاد يقفز من أحرف هذه المقالة وكلماتها هو باختصار شديد: لأننا لسنا أقوياء اقتصاديا كالصين وعسكريا ك”إسرائيل” وأمريكا، لأننا ضعفاء اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً واجتماعياً وعلمياً وتقنياً... الخ، أو لأن لدينا مصادر قوة كثيرة، لكننا لا نستثمرها، ونسمح للآخرين باستخدامها ضدنا.

لا نلومن أحدا غير أنفسنا. لو كنا أقوياء لاعتذرت أمريكا وبريطانيا وفرنسا عشر مرات، ولما استولى الصهاينة على فلسطين، ولكان حالنا أحسن من حال الصين مع جيرانها واليهود مع ألمانيا.