موسكو:حينما يزور أي سائح موسكو لابد ان تطأ قدماه شارع اربات العتيد في مركز العاصمة الروسية، ففي هذه الزاوية الصغيرة تركزت عصارة تاريخ المدينة وثقافتها، وفيها مرت احداث عاصفة ومنها، وعاشت فيه شخصيات، ظلت حية في ذاكرة التاريخ، واجواء سجلتها الاعمال الادبية. ورسم الفنانون التشكليون اربات من كافة زواياة، ونقلوا نكهته الاصلية وتغنى به الشعراء بقصائدهم، ووظفه القصاصون مكانا لاحداث رواياتهم. وحقا ان المنطقة المحيطة باكملها تسمى "اربات" بيد ان الشارع احتكر الاسم، وغدى رمزه.


معالم روسية
واذا كان عصرنا وثقافة العولمة، قد غزت اربات اليوم متمثلة بمحلات ماكدونالز، والسوبرماكت وفي وسطه يفترش الرسامون بعدات الوانهم ويتجول حليقو الرؤوس وممثلو التقليعات الاخرى وهناك بعض الشباب الذين يعزفون الموسيقى وهم يتوسلون المارة ببعض الفلوس، ربما لاقتناء علبة سجائر و لابتياع قناني بيرة باردة، وممارسة مغامرة مسلية لاغير من ذلك ولايتوقع الحصول على نقود كثيرة انها لعبة، فان اربات مازال يحتفظ بنكته الاصيلة فواجهات المباني المصطفة على جانبيه مزدانة برسوم فلكورية ودينية ونمنمات واشكال روسية محضة، وتطل منها المقصورات ذات المعمارية التي تنفرد بها.، وفي وسطه تقف اعمدة كهربائية على هيئة فوانيس كانت تضئ الشوارع في القرن التاسع عشر. لقد كان شارع اربات دائما مرآة لكل عصر، ففيه تنعكس مفردات هذا العصر ورموزه ومزاجه، وسجلت قصة " اطفال اربات" التي جرت احداثها الحارة التي تطل على الشارع،ايام عصر الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين بصورة ساطعة مرحلة من تاريخه المتلون الطويل.
واستعاد اربات حضوره في العصر الحديث وتالقه منذ المرحلة الاولى للبيريسترويكا في عام 1985، وسرعان ما تحول الى : هايد بارك" للعاصمة الروسية، فتدفقت عليه الجموع من كافة اطراف المدينة لتطرح افكارها ولاول بحرية، فهناك كنت ترى الشيوعي المتعصب، وصاحب النزعة الليبرالية والفوضوي الذي يطالب بصوت جهوري بذوبان الدولة. وعلى جانبية تجمعت الفرق الموسيقية والتجمعات الهيبية التي كانت محظورة. وافتتحت على رصيف الشارع الاكشاك الصغيرة لتكون نواة اقتصاد السوق الذي لم يعرفه الروس طيلة النظام الشيوعي، لتبيع هذه المرة بشكل حر كل ما يمكن بيعه. ووجد هواة الرسم في "اربات" ستديو مفتوحا فعرضوا لوحاتهم ورسموا الصور الشخصية للمارة لقاء اجر زهيد، والشعراء المغمورون وجدوا في مريدي اربات جمهورا فضوليا يمكن ان يتكرم بالاستماع لقصائدهم ولو على مضض. بيد ان الاجواء لم تكن صافية في اربات فقد عكرتها الجريمة بكل اشكالها وانتشار المخدرات.بيد ان ذلك كان عصرا اخر اخر.


تسمية عربية

وظل مؤرخو موسكو، والباحثون في اصل اسماء الشوارع والحارات يتناقشون لفترة طويلة عن اصل اربات الغريبة على اللغة الروسية، ولكن الابحاث في بداية القرن الماضي ربطت الكلمة بالطائفة الاسلامية الكبيرة التي كانت تقطن موسكو في القرن السابع عشر. وشاعت حينها التسميات الشرقية في موسكو وتغلغلت في اللهجة الدارجة وتسمية الامكان.ووفقا لدليل مدينة موسكو الصادر عام 1914 فان تسمية "اربات" ماخوذة من كلمة " عربة" العربية نظرا لان غالبية سكان المنطقة كانوا من صناع العربات. ويذهب مؤخرون اخرون الى انها من كلمة "رباط" العربية التي تعنى ما يربط به الخيل، ودخلت الى موسكو اما عبر التتار او التجار من الشرق.

ما بعد البريسترويكا
ولكن عصر البريستروكا انتهى، خرج فيه القمقم من قنيته ثم اختفى بهدوء، وجر اذياله وغربت شمسة، وسادت القوانين شارع اربات، وعمه النظام بعد ان غابت الاحلام الكبيرة والرهانات على البيريسترويكا، فعاد الاحول الى حالها، وترسخت مثلما في كل انحاء روسيا قوانين السوق، والعرض والطلب، فتحول اربات الى سوق تجاري بكل ما في الكلمة من معنى. وافتتحت على جانبيه المقاهي والمطاعم مثل( مومو) التي ستتلذ فيها باطياب المطعم الروسي ومقابله شيش كباب، حيث الاكلات الشرقية، وهناك يمكن تتناول وجبة طعام صينية، وعلى مبعدة تومض امامك لوحة تراها في اغلبية عواصم العالم المتحضر وغير المتحضرة، انها مطعم ماكدونالز للاكلات الخفيفة. وظهرت مكان حوانيت الكتب القديمة التي كنا نزورها للبحث عن كتاب نادر او رخيص، مخازن لبيع الحلي والمجوهرات، والاشاء النادرة. ان اربات اليوم يستقبل اكثر اصحاب الجيوب المليئة بالمال. ومع ذلك ففي اربات تباع اشياء جملية، عادة ما تستهوي السواح الاجانب، خاصة الفتاة اللعبة،ماتروشكا" رمز الفلاحة الروسية، التي يتفنن الروس بصعنها، وشالات النساء الموشاة بمعالم فولكلورية روسية، واواني المطبخ الروسي. وهناك تستطيع اقتناء اوسمة العهد الشيوعي او طاقية لجندي من الجيش الاحمر، او وسام لبطل عمل من ذلك العصر البعيد، او شارات نقشت عليها صورة زعيم الثورة البلشفية فلاديمير لينين وخليفته ستالين، وصور قديمة لزعماء اخرين.


ويمكنك ان تلتقط صورة مع شبيه لينين، او الى جانب صورة مجسمة لغوورباتشوف، وتقرأ الدعاية حتى على بلاط الشارع. وانتشرت البارات على جانبيه. في "اربات كل يجد ضالته".
فهناك ايضا مسرح فاختانجوفا العظيم الذي كان مسرحا تجريبا للفن الرفيع ومدرسة ذائعة الصيت في عصر الاتحاد السوفاتي. وعلى خشبته عرض الشاعر الكبير فلاديمير مايكوفسكي مسرحيته "البقة" التي سخر فيها من البرجوازية الصغيرة، وقدم فاختانجوف عروضه التجريبيه. وفي الجانب الاخر وتحول المسكن الذي سكنه بوشكين في الاعوام 1830 ـ 1840. ومع لك ذلك فاربات بظل اربات. كما يقول الروس.