د.عبدلله المدني:كيف استطاعت الهند وسط تحديات الطبيعة والجغرافيا والتاريخ و التباينات المذهبية و العرقية و الثقافية لسكانها وتجاذبات السياستين الإقليمية والدولية أن تحافظ على وحدتها و استقرارها السياسي؟ هذا سؤال لطالما تردد في الخارج و كثر النقاش حوله، لا سيما وان دولا أخرى قريبة منها ومشابهة لها في الثقافة والتاريخ والإرث الاستعماري و اقل منها بكثير لجهة تنوع مكوناتها السكانية، فشلت في تحقيق شيء مشابه.

يتفق الكثيرون أن أهم العوامل وأكثرها تأثيرا وأجدرها بالمناقشة على هذا الصعيد هو تمسك الهند منذ اللحظة الأولى لاستقلالها بالليبرالية السياسية والديمقراطية كخيار حاسم لا يعلوه أي خيار. ففي ظل دولة المؤسسات الديمقراطية ذات الوجه الليبرالي وما ينطوي عليه من فصل محكم للسلطات وإطلاق للحريات السياسية وترسيخ لقيم المساءلة والمحاسبة والنقد ، توفرت أجواء السلام الاجتماعي ومناخ الاستقرار السياسي و تراجع بالتالي شبح الفوضى والطموحات الانفصالية والانقلابات العسكرية ، وبما ساعد العقول والسواعد الهندية على البناء والإبداع والعمل الخلاق دونما خوف أو وجل أو اضطراب.

لقد راهن البعض من رواد الفكر السياسي المحافظ في الغرب على فشل التجربة الهندية قائلين بثقة أن الديمقراطية قيمة لا تصلح للتطبيق إلا في المجتمعات الغنية والمتطورة ، وأن الهند بفقرها وتخلفها وأمية الغالبية من سكانها لا تملك مقومات نجاح التجربة. لكن الهنود بتمسكهم بالخيار الديمقراطي ونجاحهم فيه فرضوا على أصحاب هذه النظريات الصمت المطبق. وعاد بعض المشككين إلى ترديد المقولة السابقة في أواسط السبعينات متخذين من لجوء رئيسة الوزراء السيدة انديرا غاندي في عام 1974 إلى فرض حالة الطوارئ وتقييد الحريات وسط مناخ سياسي واقتصادي وامني صعب دليلا على قرب انهيار الديمقراطية الهندية. ومرة أخرى سقط الرهان واثبت الهنود تمسكهم بالديمقراطية وحرصهم عليها وإجادتهم لأصولها ومتطلباتها وذلك حينما أطاحوا بالسيدة غاندي في انتخابات 1977 عقابا لها على مسها بأحد أهم مقومات الكيان الهندي. ولئن كلفت هذه التجربة رئيسة الوزراء وحزبها الرائد كثيرا ، فإنها أفادت الديمقراطية الهندية و برأتها من تهمة ديمقراطية الحزب الواحد المهيمن على السلطة لأنها أتاحت لأول مرة منذ الاستقلال وصول المعارضة ممثلة في حزب جاناتا دال إلى السلطة المركزية.

وقد أكدت انتخابات عام 2004 التشريعية أن هذه الديمقراطية لا تزال بخير رغم كل العواصف والتحديات والانتقادات ، وأنها ماضية إلى المزيد من الترسخ وبما تستحق البلاد معه بامتياز صفة كبرى ديمقراطيات العالم. ففي تلك الانتخابات لم يرضخ حزب بهاراتيا جاناتا المتشدد وحلفائه لإرادة الشعب ويسلم السلطة إلى حزب المؤتمر الفائز بطريقة حضارية و دونما هيجان وتحريض و رفض فحسب ، ولم يصوت الهنود بكثافة لحزب تقوده سيدة من أصول أجنبية ولم يمض على اكتسابها صفة المواطنة إلا عقدين من الزمن فقط ، وإنما قبلوا أيضا بتنصيب رجل من الأقلية السيخية التي لا تمثل سوى 2 بالمائة من إجمالي عدد السكان كزعيم عليهم ، لتصبح الهند ذات الأغلبية الهندوسية الطاغية في عهدة رجلين من الأقليات هما رئيس الوزراء السيخي مانموهان سينغ ورئيس الجمهورية المسلم البروفسور ابوبكر زين العابدين عبد الكلام.

على انه يجب أن نستدرك في هذا السياق أمرا لطالما غفل عنه أو تجاهله عمدا من يكتبون في الشأن الهندي ، وهو أن النهضة الهندية ما كان لها أن تتحقق بالخيار الديمقراطي وحده ، وإنما بالخيار الديمقراطي المسنود بدعامتين أساسيتين هما العلمانية والفدرالية. وبعبارة أخرى ، فانه لولا تبني الدولة الهندية منذ البداية للعلمانية والفدرالية كمفصلين أساسيين من مفاصلها لأنتكست ديمقراطيتها سريعا مثلما حدث في أماكن أخرى.

إن من حسن حظ الهند وهي تخطو خطواتها نحو الحرية والاستقلال والبناء الوطني أن رزقت بنخب سياسية عاقلة ومثقفة ومجربة ومتجردة بصفة عامة من الأنانية والغوغائية والشعارات الفضفاضة و نظريات الحلول المطلقة. هذه النخب استطاعت بفضل تلك الخصائص أن تقرأ أوضاع الماضي والحاضر والمستقبل قراءة واعية و هادئة ، وان تستوعب مشاكل الهند الكثيرة وتنوعها العرقي والثقافي والديني والإيديولوجي المعقد واختلاف درجة نمو أقاليمها الشاسعة ، ومؤثرات حضارتها الموغلة في القدم ، وان تراعي كل هذه العوامل مجتمعة وقت تأسيس هياكل الدولة السياسية وصياغة خططها التنموية ورسم علاقاتها الخارجية.

وهكذا اجمع آباء الاستقلال ونخب المجتمع السياسي الهندي الأوائل ، من بعد حوارات ومناظرات طويلة امتدت طيلة سنوات الأربعينات ، على انه لا دواء فعال لحالة الهند الموزاييكية إلا بالديمقراطية والليبرالية السياسية بأشكالها و مواصفاتها الغربية المعروفة التي ترسخ مبدأ الحريات وتعطي الجميع حق المشاركة في صناعة القرار والمحاسبة عبر صناديق الاقتراع ، وأنه لا صيغة لتحقيق حياد الدولة تجاه مكونات البلاد الدينية إلا بالعلمانية التي تساوي بين جميع الأديان وتمنع تدخلاتها وتأثيراتها على صناعة القرار السياسي، وانه لا علاج لاحتواء الطموحات الجهوية وما قد ينجم عنها من نوازع انفصالية باسم الخصوصية إلا بالفيدرالية التي تعطي الولايات قدرا من الحركة الذاتية وحرية إدارة شئونها ومشاكلها بنفسها بعيدا عن هيمنة السلطة المركزية وتدخلاتها. وأخيرا أجمعت النخب السياسية الهندية الأولى و قوى المجتمع المدني على أن الهند بتراثها الحضاري والفلسفي الغني وموقعها الاستراتيجي المتميز على تقاطع طرق الملاحة العالمية ما بين الغرب والشرق الأقصى لا يمكنها إلا أن تلعب دورا مؤثرا و ايجابيا في شئون العالم ، وبالتالي فان عليها اعتماد سياسة خارجية متوازنة إزاء اللاعبين الكبار على الساحة الدولية وبشكل يحمي أولا وأخيرا حرية القرار الخارجي وامن البلاد وسلامتها. ولئن انبثقت عن هذه الرؤية مبدأ الحياد الايجابي الذي قادت الهند حركته منذ الخمسينات واستطاعت عبره أن تقاوم تجاذبات الحرب الباردة واستقطاباتها وان تحقق من خلاله توازنا امنيا في شبه القارة الهندية ، فان السياسة الخارجية الهندية أبت أن تستسلم كليا للنصوص والمباديء الجامدة وعملت على تطوير أدواتها و وسائل تحركها وفقا لتغير الظروف وموازين القوى والمعادلات السياسية ، الأمر الذي اكسبها مرونة و ديناميكية كبيرة في التعامل الذكي مع المتغيرات الإقليمية والدولية وبشكل يحقق اكبر مصلحة وطنية أو يحصر الخسائر في أضيق نطاق. ولعل أهم الأدلة على قدرة السياسة الخارجية الهندية على التكيف السريع مع المتغيرات الدولية هو قدرتها الفائقة في مطلع التسعينات على مواجهة المتغيرات التي صاحبت انتهاء الحرب الباردة و تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار المنظومة الاشتراكية وبروز الولايات المتحدة كقطب عالمي أوحد ، في وقت كانت فيه دول كثيرة عاجزة عن قراءة تلك المتغيرات بطريقة صحيحة أو ساكنة بانتظار حدوث معجزة تعيد عقارب الساعة إلى الوراء.


*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي

إقرا ايضا

المشهد الهندي بعد الاستقلال

الصين: من مجتمع زراعي بائس إلى قوة اقتصادية مهابة

العلاقة النفطية بين الرياض وبكين 1

الصين تشتكي من معدل نموها