بعيدًا عن مخيلة المأزومين من الجهاديين والدنماركيين
الصورة والسيرة الشعبية للنبي كما رسمها المصريون

كتب ـ نبيل شرف الدين: لا مفر من التسليم بأن ثقافة الكراهية وحالة العصاب والتشنج باتت تخيم على المشهد الكوني، وأن مشاعر العداوة بين المسلمين وغيرهم تتصاعد باطراد، خلال هذه اللحظة الفارقة من التاريخ الإنساني، وبداية ينبغي أن نعترف بأن المسؤولية عن شيوع ذلك المناخ، يتقاسمها متطرفون مسلمون بأفعالهم القبيحة والعدوانية، وخطابهم الاستفزازي الخشبي، ومتطرفون آخرون من خارج دائرة الإسلام، بردود فعل خرقاء، وجهل أرعن وعنصرية بغيضة، حتى بدا الأمر في النهاية وكأن متعصبي الجانبين متفقون ولو من دون تنسيق بينهم بالضرورة، على رسم صورة شريرة جائرة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ووصفه كنبي quot;مسلح مقاتلquot;، يحرض أتباعه على الاغتيال والتفجير، ويتعمد قمع الآخرين المخالفين بكل فظاظة.

ولعل ما ترتب على شيوع تلك الصورة من أزمات واحتقانات ـ لن تكون آخرها quot;الرسوم الدانماركيةquot; ـ يدفعنا إلى النبش في جذور رؤية أخرى جرى تهميشها واستبعادها عن قصد أو جهل، وهي تلك الصورة الشعبية الرائعة التي رسمتها الثقافة الشعبية للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وبالطبع فهذه الصورة ليست موضع اتفاق بين أتباع المذاهب والفرق الإسلامية المختلفة، إذ يراها بعضهم وخاصة في خندق السلفية (المدرسية والجهادية) مجرد quot;شطحات وهرطقاتquot;، ويجعلون من مجرد الاعتقاد بها quot;شركياتquot; تخرج المرء من عباءة الإسلام، وهذه بالطبع طريقة خطرة في التفكير والتأويل، وتنطوي على قدر منفلت من المغالاة والتنطع والتحريض، وكما رأينا فقد أفرزت هذه الطائفة ذهنية quot;المجاهدين الجددquot;، الذين أساءوا إلى الإسلام كما لم يفعل أشرس أعدائه.

من هنا لا ينبغي التوقف طويلاً أو الارتجاف قليلاً، أمام الإرهاب الفكري الذي يمارسه غلاة السلفية الجهادية ومن لف لفهم، في سبيل التصدي لمحاولة إنصاف تراث المتصوفة العظيم، وقد كان ولم يزل نواة للدين الشعبي المتسامح السمح، وهو في هذا السياق يرسم نموذجًا بالغ الرقة والرحمة والعذوبة لنبي السلام، يختزل فيه أنبل القيم الإنسانية، ويعزز كل هذا بملحمة تطال سيرته وتستلهم أقواله وتجتهد في تعاليمه، وذلك خلافًا للنموذج quot;الأمويquot; الفظ العدواني، الذي تتبناه جماعات الإرهاب الديني كتنظيم quot;القاعدةquot; ومن يدورون في فلكه، ويعتمدون مرجعياته، سواء كانوا مؤيدين له، أو حتى من المناوئين، الذين يحملون ذات الذائقة المتعصبة، ويصرون على مواجهة الشر بالشر، وإشعال نيران الكراهية في كل مكان.

الدراويش

النبي المصري
وخلافًا لثقافات شعوب أخرى اعتنقت الإسلام قبلهم أو بعدهم، فقد بلور المصريون بمر الزمان صورة بالغة الخصوصية للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، رسمت ملامح شخصيته كنموذج إنساني فريد، وتجاوزت علاقتهم به الواقع لتصبح quot;حقيقة روحية ووجدانيةquot;، يجري عبرها التواصل الدائم بعيدًا عن قوانين الزمان والمكان، وتستلهم من تراثه ما يفي بحاجاتهم الروحية، ويطمئنهم، ويرد على تساؤلاتهم الكونية، وتدعم تعايشهم المشترك مع شركائهم في الوطن من اليهود والمسيحيين، خاصة أن الجميع من طمي النيل.

ولعل في ملامح تلك الصورة ما يفسر أسرار التعايش التاريخي بين كافة المصريين لقرون طويلة، بغض النظر عن أديانهم، فضلاً عن التسامح بل والترحيب المصري بالآخر quot;شرقيًا كان أم غربيًاquot;، واحترام معتقداته وثقافته، وإن كان ذلك قبل أن تهب على وادي النيل الطيب quot;ريح السمومquot;، على النحو المعروف للكافة أسبابه ومظاهره ونتائجه الوخيمة.

وبقليل من التأمل سنضع أيدينا على حقيقة بالغة البساطة والأهمية، مفادها أن المسافة بين المقدس والإنساني في المخيلة الشعبية المصرية للنبي الأكرم، ليست مجرد توهيمات تستعصي على الفهم، بل هي حالة اشتباك حضارية حقيقة، يتداخل فيها الرمز بالواقع، وتجعل المقدس الغيبي حاضرًا في الواقع اليومي، عبر صفاته الإنسانية التي حرص الوجدان الشعبي، على تأكيد قيمها الجمالية والإنسانية والروحية معًا.

من هنا فقد كان quot;التصوفquot; هو الإضافة المصرية الروحية للحياة الدينية في الإسلام، تمامًا كما كانت quot;الرهبنةquot; هي الإضافة المصرية للمسيحية، والتي لم تأت بدورها من فراغ، فكلاهما (التصوف والرهبنة) ليسا ببعيدين عن الروح التي يمكن للمرء أن يلامسها بين ثنايا سطور ومعاني quot;بردية آنيquot; ، الشهيرة باسم quot;كتاب الموتىquot;، كما أن كليهما (الرهبنة والتصوف) يشكلان استجابة إبداعية للحاجات الروحية للبشر، ويمثلان استلهامًا خلاقًا لتراث روحي أصيل، يضرب بجذوره على ضفاف النهر منذ فجر الضمير الإنساني.

لوحة قديمة للمتصوفة

قبطي أسس التصوف
ولأسباب يطول شرحها، وخلفيات لا يتسع المقام للتأصيل لها هنا، فإن الأمر لا يبدو غريبًا حين نعرف أن المؤسس الحقيقي للتصوف الإسلامي مصري نوبي، بل وابن لرجل دين قبطي، كان عارفًا بالهيروغليفية والقبطية معرفته بالعربية، وعالمًا بالكيمياء أيضًا، وهو الإمام quot;ذو النون المصريquot;، المتوفى سنة 245هـ واسمه ثوبان بن إبراهيم quot;فائق هذا الشأن وأوحد وقته علمًا وروعًا وحالاً وأدبًاquot; كما يصفه أعلام زمنه.

ولم يكن غريبًا أيضًا أن يكون مؤلف أشهر قصيدة في مدح النبي على الإطلاق، مصريًا وهو الإمام البوصيري صاحب quot;نهج البردةquot;، التي ألهمت آلاف الكتاب والشعراء والخطاطين والفنانين إبداعات لا حصر لها، والتي يرسم بأبياتها صورة شعرية فذة للنبي (صلوات الله وسلامه عليه)، كمثل أعلى أخلاقي للتسامح، وسعة الصدر والبعد عن الغلظة في القول والفعل :
ما قال (لا) قط إلا في تشهده... لولا التشهد لكانت لأؤه نعم
فمبلغ العلم فيه أنه بشرٌ... وأنه خير خلق الله كلهمِ
ما سامني الدهر ضيماً واستجرت به... إلا ونلت جواراً منه لم يضمِ
فإن من جودك الدنيا وضرتها... ومن علومك علم اللوح والقلمِ
كما لم يكن غريبًا أيضًا أن تكون أرض مصر مقصدًا ومستقرًا لأعلام التصوف من شتى بقاع العالم الإسلامي، وأن يكون ترابها مأواهم وأضرحتهم بعد رحلتهم الأبدية، بداية من الإمام الحسين، وعلي زين العابدين، وصولاً إلى السيدة نفيسة بنت الحسن المنحدرة من صلب الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام، والتي مازال المصريون يطلقون عليها حتى اليوم : quot;نفيسة العلم، وحامية مصرquot;، إلى الإمام الشعراني القطب الصوفي الذي جابت شهرته الآفاق في القرن العاشر الهجري، مرورًا بالعديد من أولياء الله الصالحين الذين تكاد لا تخلو من أضرحتهم قرية مصرية واحدة.

النبي والولي
لقد كان الجميع يرون في شخصية الرسول الأكرم مثلهم الأعلى حيًا وميتًا، وكانت علاقتهم به تتخطى حقائق الواقع إلى حقيقة روحية وإنسانية أكثر رحابة وسعة، حيث يجري من خلالها التواصل الدائم بعيداً عن قوانين الزمان والمكان والمنطق الظاهر، ويروي الإمام الشعراني عن quot;الغوث الأكبر والقطب الأشهرquot; أحمد الرفاعي، أنه لما حج وقف تجاه الحجرة النبوية الشريفة وأنشد قائلاً:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها... تقبل الأرض عني فهي نائبتي
وهذه نوبة الأرواح وازدهرت.. فأمدد يمينك كي تحظى بها شفتي
فالنبي الكريم هو المثل الصوفي الأعلى لكل من سار على الدرب، عملاً بقوله تعالى : quot;لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخرquot;، كما كان المتصوفة المصريون الكبار أيضًا على علاقة قوية بدنياهم ومجتمعهم، وأكثر التحامًا واتساقًا مع ثقافتهم الشعبية، ولم يكونوا منسحبين مهرطقين سذجًا، كما زعم أعداؤهم في أبشع عملية تشهير ظالمة طالت التصوف والمتصوفة خلال قرون.
وفي هذا السياق تكفي الإشارة إلى أن الإمام البوصيري كان قبل أن ينظم بردته الشهيرة موظفًا حكوميًا صغيرًا، طالما أشبع الانحرافات الإدارية والسياسية في العصر المملوكي هجاء لاذعًا ونقدًا ساخرًا.
وكذلك كان الإمام الشعراني الذي لم يقف بمعزل عن المجتمع الذى يعيش فيه، ولكنه وجد من الواجب عليه أن يكون أداة صالحة في ترقيته وتثقيفه، والأخذ بيد أفراده إلى ما هو أفضل، والعمل على إنصافهم من حكامهم ورؤسائهم، ويقول الشعراني عن الفارق بين الولي والنبي: quot;مقام النبوة يبتدئ بعد انتهاء مقام الولاية، ولو أن ولياً تقدم إلى العين التي يأخذ منها الأنبياء لاحترق، وغاية الأمر أنهم يتأدبون بشريعة محمد، فأرواح محبي النبي لا يلحقها الفناء، وهو يقصد بهم هؤلاء الذين خالطت محبة النبي حشاشتهم، حتى سرت في أجسادهم سريان الماء في العودquot;.

تشكيلي لاسم محمد

النبي الشعبي
وإذا كانت هذه هي بعض ملامح علاقة المتصوفة المصريين من الأقطاب والعلماء بالنبي صلوات الله عليه وسلامه، فإن صورته الشريفة في الوجدان الشعبي الجمعي ليست بعيدة عن ذلك، بل ربما كانت أعمق ارتباطًا بالموروث التاريخي، وهو الأمر الذى يعكسه التصوف الشعبي في أغاني quot;التخميرquot; الصوفية، وهي الأناشيد التي تمهد المُريد للوجد الصوفي كما تمهد للوجد البشرى، وفي أغاني الحج ومقدمات السيرة الشعبية حيث يقول المنشد الصوفي الشعبي:
كف النبي الهاشمي نبع الزلال منه... روى العطاشى وجيش المؤمنين منه
ويرسم صورة فريدة فنيًا لأسباب المطر والغيث:
بين السماء والأرض ساقية بتدور... سواقها المصطفى اسمه بهي النور
وجائزة الوصول إلى حالة الوجد الصوفي وهي مصافحة يد النبي عليه الصلاة والسلام، ويالها من جائزة تلك التي ينالها المريد بعد أن يقرأ أوراده في أول الليل، وفي آخر الليل quot;يسلم ع المصطفى بإيدهquot;.
أما الأغاني والأهازيج المصاحبة لرحلة الحجيج وعودتهم، فهي لا ترى في هذه الرحلة المقدسة أداء لفريضة دينية فحسب، بل تتجاوز ذلك فتراها وسيلة لشفاعة الحبيب.
يقول المنشد الشعبي المصري مخاطباً قافلة الإبل والقطار وسيلتي الرحلة في الأيام الخوالي :
quot;يا بو الخف زينه.. يا جمل يا جميل.. رايح على فين يا جمل بكل ده الحيل ؟
ـ رايح أودي الحبايب يزوروا نبينا الغالي
يا وابور يا وابور، يا بو دراعات حديد.. رايح فين يا وابور يابو دراعات حديد؟
ـ رايح أودى الحبايب يزوروا الحبايب
ورصوا الكراسي حوالين قبر النبي وراسي
ولما هل نور النبي.. تاب كل عاصيquot;
وتكتمل الصورة بالإشارة إلى الطريقة التي يخاطب شاعر السيرة الشعبية للنبي الأكرم، جمهوره بعبارات بسيطة تفيض رقة وعذوبة وصدقًا اقتطف منها نموذجًا تقول بعض كلماته: quot;العاشق لجمال النبي يصلي عليه... واسمع وشوف، وصلي على صاحب المقام الموصوف، وأول ما نبتدي القول نصلي على النبي العدناني، وأول كلامي أمدح نبينا المختار.. ولا خلق الرحمن أفضل من النبي طه، اللي سارت لأجله الركايب من كل فج عميق، يا رب ترزقنا شفاعة نبينا، وأفضل ما قلنا صلاتنا عليه، نبينا محمد صفوة الأطهارquot;... الخ.
[email protected]