دلال وبلند في لندن
بعد رحيل زوجها الشاعر العراقي الكبير بلند الحيدري، كثفت الفنانة التشكيلية دلال المفتي، من نشاطها الفني والسياسي. الزميل الشاعر العراقي هاشم شفيق زارها في مرسمها، واجرى معها حديث ذكريات، تروي فيه "أم عمر" قصتها مع زوجها الراحل بلند الحيدري "صديق العمر"&كما تسميه. في هذه الحلقة، تحدثنا أم عمر عن شخصية بلند، وكيف تعرفت عليه، وتعترف بكل صراحة كيف انجدثبت اليه، وهربت معه عندما رفض اهلها الاقتران بهذا الرجل " المشرد بلا مأوى ولا نقود".
&
"بلند" يعني "شامخ" &باللغة الكردية
وليكن سؤالنا الاول، هل يمكن ان تعطينا نبذة مختصرة عن "صديق عمرك" الراحل بلند الحيدري؟
ولد بلند في بغداد في 26 أيلول (سبتمبر) 1926 وهو كردي الاصل واسمه يعني "شامخ" في اللغة الكردية. والدته فاطمة بنت ابراهيم أفندي الحيدري الذي كان يشتغل منصب شيخ الاسلام في اسطنبول.
ووالد بلند ماذا كان؟
والد بلند كان ضابطا في الجيش العراقي، وهو من عائلة كبيرة أغلبها كان يقطن في شمال العراق ما بين أربيل وسلسلة جبال السليمانية، ومن هذه العائلة برز أيضا جمال الحيدري الزعيم الشيوعي المعروف والذي قتل في انقلاب الثامن من شباط (فبراير) عام 1963 مع& أخيه مهيب الحيدري، وهناك الى جانب بلند لأخ الأكبر صفاء الحيدري وهو شاعر بدأ كتابة الشعر بالطبع قبل بلند وله دواوين شعرية عديدة مطبوعة في العراق، وصفاء هذا كان يتصف بنزعة وجودية متمردة، ذهبت به للقيام بنصب خيمة سوداء في بساتين بعقوبة لغرض السكنى فيها، وهناك في بعقوبة تعرّف على الشاعر الوجودي المشرد حسين مردان الذي بدوره عرّفه على بلند، كانت بين الأخوين بلند وصفاء منافسة واضحة، فعندما كان صفاء على سبيل المثال ملاكما كان بلند ملاكما أيضا، وعندما برز اسم صفاء الحيدري في ساحة الشعر العراقي ظهر اسم بلند ليتجاوزه وينال حظة وشهرة في العراق والعالم العربي. وكان صفاء يكتب رسائل لبلند ويخبره بانه غطى عليه وانه حطمه الخ..
في بداية حياته تنقل بلند بين المدن الكردية، السيلمانية وأربيل وكركوك بحكم عمل والده كضابط في الجيش. في العام 1940 انفصل الوالدان . ولما &توفيت والدته التي كان متعلقا بها كثيرا في العام 1942، انتقلت العائلة الى بيت جدتهم والدة أبيه. لم ينسجم بلند في محيطه الجديد وقوانينها الصارمة فحاول الانتحار وترك دراسته قبل ان يكمل المتوسطة في ثانوية التفيض، وخرج من البيت مبتدأ تشرده في سن المراهقة المبكر وهو في السادسة عشرة من عمره.
توفي والده في عام 1945 ولم يُسمح لبلند ان يسير في جنازته. نام بلند تحت جسور بغداد لعدة ليال، وقام بأعمال مختلفة منها كتابة العراض (العرضحالجي) أمام وزارة العدل حيث كان خاله داوود الحيدري وزيرا للعدل وذلك تحدي للعائلة.
بالرغم من تشرده كان بلند حريصا على تثقيف نفسه فكان يذهب الى المكتبة العامة لسنين ليبقى فيها حتى ساعات متأخرة من الليل اذ كوّن صداقة مع حارس المكتبة الذي كان يسمح له بالبقاء بعد اقفال المكتبة. كانت ثقافته انتقائية، فدرس الادب العربي والنقد والتراث وعلم النفس وكان معجب بفرويد وقرأ الفلسفة وتبنى الوجودية لفترة ثم الماركسية والديمقراطية، علاوة على قراءته للأدب العربي من خلال الترجمات.
ماذا عن طفولته؟
كانت طفولته غير سعيدة وغير مستقرة. كان انطوائيا مرهف الاحساس يعيش في عالمه الخاص. يروى انه كان يركب دراجته الهوائية التي كانت عبارة عن صخرة في احدى زوايا الحديقة ويسافر بها الى النجوم. كان ينافس اخوه صفاء
دلال وبلند في بيروت
الذي يكبره بخمس سنوات، فكتب الشعر منافسا له، ثم اصبح ملاكما لأن أخاه كان رياضيا. والظاهر ان صفاء يحسد بلند بدوره لشهرته فيما بعد اذ كان يراسله بين حين واخر يلومه ويتهمه ب"انه غطى عليه كشاعر وانه حطمه و..الخ
وكذلك مراهقته لم تكن&مستقرة ايضا. ولكنها كانت غنية في تجارب الحياة وتكوين ثقافته وشخصيته.
لنتحدث عن البدايات، كيف تعرفت على بلند وأين؟
كان ذلك عام 1952 في بغداد، وعن طريق السيدة أفسر الحيدري أخت بلند التي كانت صديقتي في كلية البنات البيروتية، يومها دعتني أفسر لتناول الشاي في بيت خالها داوود الحيدري، وزير العدل آنذاك، وبلند كان حاضرا، اذ ثمة شيء جذبني اليه، ربما موهبته الشعرية بالدرجة الاولى.
هل كان معروفا في ذلك الوقت؟
كان قد أصدر ديوانه الثاني "أغاني المدينة الميّتة" فأهدانيه بفرح ارتسم على وجهه وهو يقدمه اليّ، حين تصفحته في تلك الجلسة، علّقت عليه قائلة: ان أشعارك تشبه الى حد ما أشعار تي اس إليوت.
لماذا كان يسكن بلند في بيت خاله؟
نتيجة تمرّده باكرا على القيم الاجتماعية، وبالذات عائلته المتمثلة بسطوة الأب الذي لم يكن يتفهم بلند كثيرا، وعائلته بالأساس عائلة محافظة، فجد بلند لأمه كان رجل دين معروف وهو ابراهيم أفندي الملقب بشيخ الاسلام، وأم بلند جاءت من تركيا ولكنها من العائلة الحيدرية ذاتها، ويقال ان الحيدرية تتحدّر من السلالة الصفوية التي توطّنت في العراق قبل أربعمائة عام.
وبعد ذلك ماذا حدث لعلاقتكما أنت وبلند؟
تمّ الزواج بيننا، لقد أحببت بلند فهربت معه، خارجة بذلك على تقاليد العائلة، فقاطعني أبي والعائلة.
لماذا الوالد لم يكن موافقا؟
لعائلتي مقاييس ومفاهيم مختلفة عني، فهم يريدون من الشخص الذي ينوي الارتباط بي ان تكون له وظيفة مرموقة أو منصب كبير، غير ان بلند كان لحظة تعرفي عليه شخصيا بوهيمياً متسكعا بلا نقود ولا مأوى.
وبعد ذلك؟
بعدها وجد له وظيفة بسيطة وهي محاسب في شركة المنصور لسباق الخيول، ثم تدرج في وظائف اخرى منها نائب المدير العام لمعرض بغداد الدولي. وفي أعقاب الخمسينات عمل مديرا للمركز الثقافي السوفييتي.
والسكن كيف تدبرتموه؟
زواجنا كان عام 1935، وبعد عملي وعمل بلند سكنّا في شارع طه، والسكن كان عبارة عن كاراج للسيارات، أي مشتمل ملحق ببيب كبير، ولي في هذا البيت ذكريات لا تنسى، فسقف المسكن كان باستمرار وخصوصا في أيام الشتاء ينزّ ماء، فكنّا نضع الطست لنجمع فيه القطرات ونضع المناشف أيضا، صاحب السكن كان مدير معهد الفنون الجميلة عزيز سامي، وكنا ندفع ايجار هذا السكن من دخلنا الشهري المتكوّن من ستين ديناراً.
ماذا كنت تعملين؟
كنت أعمل مدرّسة في ثانوية الأعظمية للبنات.
ما الذكر العالقة في ذهنك عن جواد سليم وجماعة الوقت الضائع؟
الفنان النحات جواد سليم، كان من أعز أصدقاء بلند، وقد أثر فيه كثيرا. فانعكست ثقافة جواد وما اكتسبه من معارف على بلند بشكل كبير، خصوصا عندما جاء جواد من لندن، فجواد كان يحبّ الموسيقى ويرسم وينحت، كل ذلك انعكس& فيما بعد على رؤية بلند، فسرعان ما وظفت موهبة بلند هذه المعارف لصالح شعره وثقافته التشكيلية، اضافة الى ذلك فجواد كان استاذي حيث درّسني في معهد الفنون الجميلة، وأتذكر يومها أهدانا لوحة "الذبيحة" وهي لوحة جميلة ولكننا اضطررنا الى بيعها الى المعماري المعروف رفعت الجادرجي، عندما غادرنا العراق الى بيروت ابان انقلاب 8 شباط (فبراير)، وبعنا لناس اخرين لوحات للنحات خالد الرحّال.
هل التقيت بالشاعر حسين مردان، صديق بلند العتيد؟
بلند حدّثني طويلا عن حسين مردان، وذات يوم طرق حسين مردان دارنا، كان خارجا لتوّه من السجن، وقتذاك كنت قد طبخت أكلة باذنجان وصادف الأكلة وقد طبختْ من دون لحم، غير ان حسين لم يمرر هذا الأمر بسهولة، فراح يندد في المقهى قائلا: أن زوجة بلند ذات الأصول الارستقراطية طبخت الطعام من دون لحم حين كنا ضيوفها في المنزل.
ومن كان من أصدقاء بلند في تلك الفترة؟
أتذكر الفنان حافظ الدروبي والشاعر أكرم الوتري وعدنان رؤوف وفائق حسن، وأذكر ان بعض الشعراء فضلا عن بلند أصدروا مجلة وأسسوا تجمعا سمي "المرفأ" وعلى ما أظن ضمّ الشعراء سعدي يوسف ورشدي العامل وربما محمد سعيد الصكار.
دلال المفتي، أأنتِ عراقية؟
أنا عراقية الروح والقلب، ولا أرضى أن أكون غير ذلك. أما من ناحية الأصول، فأني انحدر من أرومة سورية، أمي من بيت العوّا، وجدتي من بيت "عرق سوس" وجدة جدتي جذرها تركي. أما جدي لأبي فهو مفتي ديار الشام وأستاذ الملك فيصل الأول، ومديرا لخزينة الدولة في العراق وأبي كان طبيباً.
لماذا تركتم العراق في عام 1963؟
تركنا العراق حين حدثت تلك الجمعة المشؤومة، في انقلاب الثامن من شباط (فبراير)، في ثالث يوم الانقلاب سجن بلند لمدة أربعة شهور بتهمة الشيوعية، ثم اعتقلت أنا في اليوم السابع للانقلاب وبقيت لمدة شهرين في سجن النساء في بغداد، وبلند كان في سجن " خلف السدة" المشهور.
ولسجن بلند قصة. لقد أخذ بلند من بيت أحد الأصدقاء في المنصور، حيث دعينا لعيد ميلاد وبتنا عندهم، لكن قبل أن يهل الصبح جاء "زوار الفجر" الى هذا البيت في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ليعتقلوا بلند وكان هؤلاء مدججين بالاسلحة والرشاشات، في اليوم التالي اشتريت برتقالة وذهبت الى السجن، كان بلند في حالة يرثى لها وحزينا وأحسسته في تلك اللحظة في غاية البعد عني، ثمة جدار عازل كان بيننا، لانه قد بلّغ بالإعدام الذي سيتم في مبنى الاذاعة، كانت تجري حفلات اعلام كثيرة في تلك الايام، ولانهم كانوا مشغولين بأمور كثيرة، وناس اخرين، قاموا فقط بمهمة التعذيب، أحد جلادي بلند كان صديقا له، وبلند ساعده في يوما ما وأسدى خدمة له بتشغيله في شركة المنصور لسباق الخيول، جزاء هذا الاحسان تلقى بلند اطفاء السجائر في جسده، وحين عاتبه بلند على ذلك قال له هذا الجلاد: هذه المرة سأطفئها في عينيك! بعدها أخذه ووضعه في زنزانة انفرادية عبارة عن مرحاض.