&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& جيمس زغبي

أولادي مولعون باثارة الاسئلة حول عمري. وهم يقولون انه "لا بد انه من الممتع ان تكون في عمر الخامسة والخمسين لان امامك فرصة ان تلتقي اناسا جددا كل يوم".
وهذه هي طريقتهم غير الماكرة في ملاحظة المرات غير القليلة التي انسى فيها اسماء ووجوه اصدقائهم، الامر الذي يعني انه يجب تقديمهم اليّ مرات كثيرة قبل ان اتذكر من هم.
وقد استخدمت هذه القصة البسيطة قبل اسبوعين في بداية ملاحظاتي في اجتماع محرري وكتاب الصحيفة. وكان قد طلب مني ان القي الخطاب الاساسي في اجتماعهم. وكان موضوعي المختار هو "اعادة اكتشاف الامريكيين العرب".
وهناك، في الواقع، اهتمام واسع من جانب وسائل الاعلام الامريكية بالجالية العربية الامريكية. ويجري اختيار مراسلين صحفيين ومخرجين في شبكات التلفزيون الوطنية ومحطات التلفزيون المحلية والصحف في مختلف انحاء البلاد لاعداد القصص حول الامريكيين العرب. وطالما ان الغالبية الساحقة من هذه القصص والمواضيع كانت صورا ايجابية جدا عن الجالية وشكلت عونا كبيرا في نشر ردود الافعال، فان المشروع بأسره يعتبر مشروعا مرضيا وسارا. فالتغلب على الصور المقولبة السلبية، ومساعدة الامريكيين على معرفتنا كما نحن في الواقع، هو، على اية حال، ما نعمل من أجل تحقيقه.
ولكن الامر خادع الى حد ما، بل ومثير للظرافة، طالما ان هذه القصة اصبحت قديمة. والحقيقة انه خلال السنوات القليلة الماضية، خصوصا عندما كانت هناك ازمة في الشرق الأوسط، قامت وسائل الاعلام الامريكية بـ"اعادة اكتشاف" الامريكيين العرب.
واقول "خادع" لانني اصطدم دائما بحقيقة انه على الرغم من كوني اعيش في مجتمع يبدو ان لديه امكانية للوصول غير المحدود الى المعلومات، والقدرة على كسب تلك المعلومات في الحال، فاننا جميعا لا نحتفظ، في الغالب، بتلك المعلومات.
ويبدو ان مراسلي الاخبار، بشكل خاص، هم ضحايا غير عاديين لهذه الظاهرة من "الافراط المعلوماتي".
وتتمثل احدى نتائج تأثير التكنولوجيا على المعلومات في ان متوسط الدورة الاخبارية، اي فترة نشر القصة الاخبارية، تقلصت من 24 ساعة الى 6 ساعات. وهذا يعني انه عندما يكتب المراسل قصة، فانه يتعين البحث فيها وكتابتها وتنقيحها سريعا قبل ان تصبح قديمة، اي قبل ان تتجاوزها التطورات الجديدة.
ويتجلى احد مخاطر تيسر هذا الكم الهائل من المعلومات في ان جزءا قليلا جدا منه يمكن استخدامه واستيعابه. وعند كتابة قصة اخبارية لا يحتاج المراسل الى الكثير من الكلام، فالقصة الاخبارية، على اية حال، ليست اطروحة. ففي الغالب يختار المراسل القليل من سياق الكلام يتضمن خلفية من المعلومات ذات الصلة بالموضوع مما ظهر في اخبار الامس، او مما هو مقبول عموما باعتباره "حكمه تقليدية" (او الآراء المسبقة السائدة)، وبالتالي "لا تحتاج القصة الى الكثير من التفسير".
واحدى النتائج الجانبية لهذا "الافراط في المعلومات" والحركة السريعة للاحداث هي ليست فقط ان كتابة التقارير الصحفية تجري في الغالب دون سياقات، وانما ايضا ان المحررين غالبا ما ينسون قصصهم الاخبارية الخاصة بعد انجازها ويخفقون في اقامة رابط بين ما كتبوه سابقا، وما يكتبونه الآن.
لنتعرف على الحالة الاخيرة الوثيقة الصلة بالموضوع. فمنذ ظهور حالات التلوث بالانثراكس في واشنطن، تواصل صحيفة "الواشنطن بوست" تغطية الحدث يوميا. وقد خصص عدد من المراسلين لتغطية الجوانب المختلفة للحدث، من حالات تفشي المرض الى معالجة اهالي واشنطن بالادوية المضادة للجراثيم. وطالما ان المعالجة الموصوفة الاكثر شيوعا هي تناول دواء سيبرو ـ وهو مضاد حيوي فعال جدا ـ لفترة 60 يوما، فان هناك قصصا اخبارية حول هذا الدواء. ويقدر ان ما يزيد على 10 آلاف شخص قد وصف لهم تناول دواء سيبرو، كاجراء وقائي بشكل رئيسي، مع وجود عدد اكبر من الناس يتناولونه بأنفسهم ومن دون وصفة طبية. والقصص التي ظهرت حول دواء سيبرو ركزت على موضوعات تمتد من تأثير هذه الازمة على شركة الادوية التي تنتج هذا الدواء، الى القصص الاخبارية التي تعالج الآثار الجانبية المحتملة لدواء سيبرو. ومن بين تلك الآثار الجانبية مشكلات محتملة تتعلق بالمعدة، وتأثير سلبي على نظام مناعة الجسم.
وما يجري تجاهله في كل هذه التغطيات هو تأثير جانبي يحتمل ان يكون اكثر تدميرا. فقد اكتشف ان سيبرو يؤدي الى مستويات خطرة من الكآبة والقلق لدى بعض الاشخاص. والحقيقة ان هناك عددا من التقارير عن أناس تناولوا هذا الدواء وارتكبوا عمليات انتحار او اصيبوا بعمليات انهيار عصبي.
أين وجدت هذه المعلومات؟ في مقالة نشرتها "الواشنطن بوست" عن دواء سيبرو عام 1994.
ان ما كان محزنا، بالطبع، هو انه بينما اتذكر هذه القصة الاخبارية، لم يفعل احد في "الواشنطن بوست" ذلك، ولهذا لم يكن هناك ذكر لهذا الخطر في اي من المقالات التي كتبت خلال الشهر الماضي.
وهذا هو ما يعيدني الى السياق الاصلي لقصتي هنا. فالامريكيون العرب يجري اكتشافهم، او اعادة اكتشافهم، من جانب نفس الصحف والشبكات الاعلامية التي اكتشفتنا مرتين من قبل خلال فترة العقد الماضي.
وبينما كنت اتحدث الى اولئك الذين اختيروا لكتابة القصة الاخبارية، اكتشفوا مرة اخرى تنوع جاليتنا، اي اننا لسنا جماعة اثنية جديدة في امريكا (فنحن هنا منذ 120عاما).. وان معظم الامريكيين العرب ليسوا مسلمين (20 في المائة فقط منهم مسلمون).. وان معظم الامريكيين العرب ليسوا مهاجرين جددا (حوالي 80 في المائة منهم ولدوا في الولايات المتحدة).. وان الكثير من الامريكيين العرب حققوا تفوقا وقبولا في امريكا (حيث يعمل اثنان من الامريكيين العرب الفخورين بانتمائهم، هما سبنسر ابراهام وميتش دانييلز، في حكومة الرئيس بوش، ودونا شلاله التي عملت في حكومة الرئيس بيل كلينتون).
والكثير من هذا يأتي كأخبار جديدة بالنسبة لاولئك الذين يعدون القصة الاخبارية. ويبدو كثير منهم، في الواقع، مندهشين لسماع هذه المعلومات حول واقع الجالية العربية الامريكية. وعلى الرغم من ان القصة كتبت من قبل، وربما نفكر في "ان كل امرئ يعرفها"، فانه اذا لم يجر الاحتفاظ بها فانها، في الحقيقة، قصة جديدة.
وهكذا تعلمنا درسا جديدا هاما. فعندما نتحدث الى الصحافة، علينا ان لا نسلم جدلا بأي شيء. علينا ان نروي القصة في كل مرة كما لو أننا نرويها للمرة الاولى ـ كما يفعل اولادي عندما يعرفونني مرة تلو اخرى على اصدقائهم.
وعلينا ان نعرف اننا اذا لم نرو القصة كاملة وبصورة صحيحة، فان ما سيتضمنه التقرير الصحفي اما ان يكون قصة مجتزأة، او قصة تستند الى تعصب الصحفي، او محدودة بسبب افتقاره الى المعلومات.
وبسبب ان الامريكيين العرب يتميزون بالبراعة والاناقة فقد نجحوا، في معظم الاحيان، في قص قصصهم الاخبارية على نحو جيد. لقد جرى قصها مرات كثيرة، لكنني اعتقد انها قصة جذابة.. والقصة الجذابة تحتمل التكرار. (عن "الشرق الاوسط" اللندنية)
&