&
&
في الحرب يربح من يربح ويخسر من يخسر من المقاتلين والمتقاتلين، وثمة خاسر واحد، خاسر ازلي واحد، ايا كان المهزوم او المنتصر، انه الناس. وقد يكون الناس افغانيين او صوماليين او لبنانيين، لكنهم دائماً خاسرون. وهم خاسرون في اي جهة كانت، وسواء غيروا ولاءاتهم ام لا. وغالباً ما يفعلون، لكن دائماً من دون جدوى، فهم سيخسرون.
كان لبنان، بسبب طول الحرب، هو المثال الاكثر علنية. فالميليشيات التي انحصرت داخل "مناطقها" وتسلطت عليها واقامت فيها حكمها، كانت تنكل، اكثر ما تنكل، بأهلها وجماعتها: ترهقهم بالضرائب وتذلهم بالقرارات وتحجب عنهم المؤن وتطاردهم بالخوات وتفرض عليهم "قوانينها" من سجون واعدامات. وكانت هذه الميليشيات تتقاتل فيما بينها على الغنائم. وتحول المجتمع اللبناني في كل البلد الى طبقتين لا ثالث لهما، الطبقة الخائفة والطبقة المخيفة. ومن لم يقو على الاحتمال هاجر، ومن لم يقدر على الهجرة اضطر الى تحمل الموتين، موت النار وموت الهوان.
وتكررت المشاهد نفسها في الصومال لانها تلحق بالحروب اينما ذهبت. واصبحنا نرى الجماعات القاتلة ترفع الرشاشات في سيارات مكشوفة لكي تروع الناس بدل الدفاع عنهم. وكانت المساعدات الدولية تسرق وتباع الى الجائعين والمساكين. ولم يعد للقانون العام اي وجود، فلا قضاء ولا شرطة ولا شيء سوى البنادق المرفوعة في الهواء. ضد من؟ ضد مساكين الصومال وفقرائه وجائعيه. وسرعان ما قامت شراكة في السرقة بين زعران الصومال وبعض زعران القوة الدولية: فريق يسرق وفريق يوزع في السوق السوداء. وفي هذه الغابة الرهيبة من الفلتان اصبح سهلاً على بعض جنود الفرقة الايطالية ارتكاب عمليات الاغتصاب، لان "الابطال" الساهرين على بلادهم واعراضهم، كانوا ملتهين اما بالسرقة او ببيع المسروقات. تحول الحروب الاوطان الى معرض للذل. ذل الابرياء والضعفاء والمساكين. والمشهد يتكرر، لا ندري لاي مرة، في مدن وقرى افغانستان اليوم: قبل 14 شهراً ضُربَ اهل مزار الشريف لانهم يسمعون الموسيقى، وبعد 14 شهراً ضربوا لانهم لا يسمعونها. لم تشرد حروب السوفيات او الاميركيين سوى نسبة صغيرة من الناس. لكن النسب المخيفة شردتها حروب الافغان. ثلث الشعب الافغاني في الخيم، داخل الحدود او عبر الحدود، ومنذ العام 1989، وهم لا يعرفون اين ينامون واين يفيقون وفي ظل من وتحت اي نوع من الاحكام. ومنذ ان سقطت الدولة مع الانقلاب على الملك محمد ظاهر شاه، اطول العهود (40 عاما) واكثرها استقراراً، ساد حكم الغاب وحلّ النزاع القبلي مكان القانون الحاضن، واستعادت الاعراق غرائزها لتحلّها محل الدولة ولم تسلم بقعة صغيرة من الفوضى، وعمّ الخوف والجوع، والقي بالكرامات البشرية على الرمال، وتحولت الاسر والجماعات الى قوافل تساق في كل اتجاه او اي اتجاه، طلباً للسلامة والنجاة.
كان هذا هو المشهد اليومي في رواندا: عشرات الالوف من الناس يسيرون خلف بعضهم البعض وعلى رؤوسهم "بقج" فيها كل ما يملكون. وكان هذا هو المشهد في البوسنة، قلب اوروبا، حيث فرّ الناس بالآلاف، إما مشيا على الاقدام او على عربات تجرها الثيران، كما في العصر الاول. فالعزل والابرياء هم الضحية الاولى، سواء كانت الفظاعة في حرب تطهير عرقي، كما في البوسنة، او في حرب اخضاع متناوب، كما في افغانستان. فاول ما حدث في مزار الشريف الآن هو النهب والغصب والاعدامات العاجلة. اي القتل المجرد والجريمة البشعة. جريمة الاستقواء والاستضعاف.
ثمة قوانين واعراف وقواعد ومواثيق تنظم حالات الحرب اكثر من الاعراف التي تنظم حالات السلم العادي. ولكن افغانستان، في كل مراحل القتال الاهلي، لم تعترف بأي مظهر قانوني من مظاهر الانتصار والخسارة. ولم يبق فريق الا واعتدى على حرمة المؤسسات الدولية. وعندما دخلت قوات طالبان الى كابل كان اول عمل قامت به هو اقتحام مقر الامم المتحدة وقتل الرئيس السابق نجيب الله وشقيقه. طبعا من دون محاكمة. وهذا هو النهج الذي اتبعته مع حلفائها السابقين. حتى المحاكمة الشكلية لم تتم. وكان اغتيال احمد شاه مسعود بالطريقة التي اغتيل بها، شكلاً آخر من اشكال "الاعدام". فقد لاحظ حراسه ومرافقوه ان "الصحافيين" اللذين وصلا الى مقره وامضيا ثلاثة ايام قبل "الموعد"، لاحظ المرافقون انهما لا يدونان اي ملاحظات ولا يحملان ورقة وقلما ولا يعدان اسئلة. وقد حُذِر من ذلك، لكن بعد اصرارهما، قال فليأتيا. وطرح احد الصحافيين سؤالاً واحداً عليه: "اذا دخلت الى كابل فماذا يكون موقفك من اسامة بن لادن"؟ وفجأة طارت الاشلاء في كل مكان. وانشطر جسد الصحافي السائل الى شطرين. وادرك مساعدو شاه مسعود انهم اذا اعلنوا وفاته فسوف تنهار معنويات قواتهم وتخسر المعركة التي تخوضها، ولذا اخفوا الامر 15 يوماً الى ان حسم امر القتال، خلافاً لكل التقاليد والعادات.
لم يقتل احمد شاه مسعود في مبارزة بل في شرك. فالحروب، الاهلية منها خصوصاً، فقدت جميع اصولها. واكبر الضحايا، تكراراً، هي معاملة الناس والمدنيين والاطفال. وقد اعتاد الافغانيون مشاهد القتل والدمار بعد ربع قرن، حتى رأينا كيف يستمر الفلاح في حرث الارض فيما تمرّ ارتال الدبابات من جانبه، وكأنه حتى لا يسمع صوت هديرها.
خلال الحرب اللبنانية كان رجال الميليشيات "يحتفلون" بعد "الانتصار" في المجازر. وقد كتبت يومها ان بعض الانتصارات ابشع من الهزيمة. وكذلك كانت انتصارات الافغان على بعضهم البعض، اولا واخيراً.(الشرق الأوسط اللندنية)
كان لبنان، بسبب طول الحرب، هو المثال الاكثر علنية. فالميليشيات التي انحصرت داخل "مناطقها" وتسلطت عليها واقامت فيها حكمها، كانت تنكل، اكثر ما تنكل، بأهلها وجماعتها: ترهقهم بالضرائب وتذلهم بالقرارات وتحجب عنهم المؤن وتطاردهم بالخوات وتفرض عليهم "قوانينها" من سجون واعدامات. وكانت هذه الميليشيات تتقاتل فيما بينها على الغنائم. وتحول المجتمع اللبناني في كل البلد الى طبقتين لا ثالث لهما، الطبقة الخائفة والطبقة المخيفة. ومن لم يقو على الاحتمال هاجر، ومن لم يقدر على الهجرة اضطر الى تحمل الموتين، موت النار وموت الهوان.
وتكررت المشاهد نفسها في الصومال لانها تلحق بالحروب اينما ذهبت. واصبحنا نرى الجماعات القاتلة ترفع الرشاشات في سيارات مكشوفة لكي تروع الناس بدل الدفاع عنهم. وكانت المساعدات الدولية تسرق وتباع الى الجائعين والمساكين. ولم يعد للقانون العام اي وجود، فلا قضاء ولا شرطة ولا شيء سوى البنادق المرفوعة في الهواء. ضد من؟ ضد مساكين الصومال وفقرائه وجائعيه. وسرعان ما قامت شراكة في السرقة بين زعران الصومال وبعض زعران القوة الدولية: فريق يسرق وفريق يوزع في السوق السوداء. وفي هذه الغابة الرهيبة من الفلتان اصبح سهلاً على بعض جنود الفرقة الايطالية ارتكاب عمليات الاغتصاب، لان "الابطال" الساهرين على بلادهم واعراضهم، كانوا ملتهين اما بالسرقة او ببيع المسروقات. تحول الحروب الاوطان الى معرض للذل. ذل الابرياء والضعفاء والمساكين. والمشهد يتكرر، لا ندري لاي مرة، في مدن وقرى افغانستان اليوم: قبل 14 شهراً ضُربَ اهل مزار الشريف لانهم يسمعون الموسيقى، وبعد 14 شهراً ضربوا لانهم لا يسمعونها. لم تشرد حروب السوفيات او الاميركيين سوى نسبة صغيرة من الناس. لكن النسب المخيفة شردتها حروب الافغان. ثلث الشعب الافغاني في الخيم، داخل الحدود او عبر الحدود، ومنذ العام 1989، وهم لا يعرفون اين ينامون واين يفيقون وفي ظل من وتحت اي نوع من الاحكام. ومنذ ان سقطت الدولة مع الانقلاب على الملك محمد ظاهر شاه، اطول العهود (40 عاما) واكثرها استقراراً، ساد حكم الغاب وحلّ النزاع القبلي مكان القانون الحاضن، واستعادت الاعراق غرائزها لتحلّها محل الدولة ولم تسلم بقعة صغيرة من الفوضى، وعمّ الخوف والجوع، والقي بالكرامات البشرية على الرمال، وتحولت الاسر والجماعات الى قوافل تساق في كل اتجاه او اي اتجاه، طلباً للسلامة والنجاة.
كان هذا هو المشهد اليومي في رواندا: عشرات الالوف من الناس يسيرون خلف بعضهم البعض وعلى رؤوسهم "بقج" فيها كل ما يملكون. وكان هذا هو المشهد في البوسنة، قلب اوروبا، حيث فرّ الناس بالآلاف، إما مشيا على الاقدام او على عربات تجرها الثيران، كما في العصر الاول. فالعزل والابرياء هم الضحية الاولى، سواء كانت الفظاعة في حرب تطهير عرقي، كما في البوسنة، او في حرب اخضاع متناوب، كما في افغانستان. فاول ما حدث في مزار الشريف الآن هو النهب والغصب والاعدامات العاجلة. اي القتل المجرد والجريمة البشعة. جريمة الاستقواء والاستضعاف.
ثمة قوانين واعراف وقواعد ومواثيق تنظم حالات الحرب اكثر من الاعراف التي تنظم حالات السلم العادي. ولكن افغانستان، في كل مراحل القتال الاهلي، لم تعترف بأي مظهر قانوني من مظاهر الانتصار والخسارة. ولم يبق فريق الا واعتدى على حرمة المؤسسات الدولية. وعندما دخلت قوات طالبان الى كابل كان اول عمل قامت به هو اقتحام مقر الامم المتحدة وقتل الرئيس السابق نجيب الله وشقيقه. طبعا من دون محاكمة. وهذا هو النهج الذي اتبعته مع حلفائها السابقين. حتى المحاكمة الشكلية لم تتم. وكان اغتيال احمد شاه مسعود بالطريقة التي اغتيل بها، شكلاً آخر من اشكال "الاعدام". فقد لاحظ حراسه ومرافقوه ان "الصحافيين" اللذين وصلا الى مقره وامضيا ثلاثة ايام قبل "الموعد"، لاحظ المرافقون انهما لا يدونان اي ملاحظات ولا يحملان ورقة وقلما ولا يعدان اسئلة. وقد حُذِر من ذلك، لكن بعد اصرارهما، قال فليأتيا. وطرح احد الصحافيين سؤالاً واحداً عليه: "اذا دخلت الى كابل فماذا يكون موقفك من اسامة بن لادن"؟ وفجأة طارت الاشلاء في كل مكان. وانشطر جسد الصحافي السائل الى شطرين. وادرك مساعدو شاه مسعود انهم اذا اعلنوا وفاته فسوف تنهار معنويات قواتهم وتخسر المعركة التي تخوضها، ولذا اخفوا الامر 15 يوماً الى ان حسم امر القتال، خلافاً لكل التقاليد والعادات.
لم يقتل احمد شاه مسعود في مبارزة بل في شرك. فالحروب، الاهلية منها خصوصاً، فقدت جميع اصولها. واكبر الضحايا، تكراراً، هي معاملة الناس والمدنيين والاطفال. وقد اعتاد الافغانيون مشاهد القتل والدمار بعد ربع قرن، حتى رأينا كيف يستمر الفلاح في حرث الارض فيما تمرّ ارتال الدبابات من جانبه، وكأنه حتى لا يسمع صوت هديرها.
خلال الحرب اللبنانية كان رجال الميليشيات "يحتفلون" بعد "الانتصار" في المجازر. وقد كتبت يومها ان بعض الانتصارات ابشع من الهزيمة. وكذلك كانت انتصارات الافغان على بعضهم البعض، اولا واخيراً.(الشرق الأوسط اللندنية)
&
التعليقات