اعادة فهم الدين على ضوء العقل
في هذا القرن حصلت تطورات كثيرة، وواصلت الحداثة شق طريقها الصاعد. وكذلك راح العقل يرسخ مواقعه اكثر فاكثر في مواجهة العقائد اللاهوتية المسيحية. وبعضهم يعتبر هذا العصر اهم العصور لان الحضارة الاوروبية الحديثة كلها تولدت عنه. وقد رافق ذلك نهوض اقتصادي وصعود طبقة جديدة على مسرح التاريخ هي: طبقة البورجوازية.
في هذا العصر بلغ الصراع بين الايمان/ والعقل ذروته. فالتديُن التقليدي المتمثل بالمسيحية تعرض لهجمات الفلاسفة. والواقع ان تاريخ الحداثة كله لا يمكن فهمه الا اذا وضعناه داخل سياق الحوار الحاد، بل والعنيف، مع المسيحية. ومصطلح التنوير يعني اعادة فهم الدين على ضوء العقل. فأنوار العقل قادرة، بحسب رأي الفلاسفة، على قيادة الناس نحو العلم والحكمة. ومن هو الفيلسوف في نهاية المطاف؟ انه ذلك الشخص الذي يستخدم عقله لكي يجعل ظلمات الجهل تتراجع وتنحسر اكثر فاكثر. والتفلسف يعني ان نعيد للعقل كرامته ومكانته بعد ان كان النقل وهيبة الأولين هي الاساس.
ما هو التنوير؟
في نص له مشهور يطرح ايمانويل كانط هذا السؤال: ما هو التنوير؟ ويجيب عليه قائلا: انه خروج الانسان من مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن الرشد. فالقصور العقلي يعني عدم القدرة على استخدام عقلنا بدون وصاية شخص اخر يقف فوقنا يحصل ذلك كما لو اننا اطفال.. ونحن مسؤولون عن حالة القصور هذه لانها لا تعود الى نقص في العقل، وانما الى نقص في الشجاعة والجرأة لدينا.
والواقع اننا تعودنا منذ زمن طويل على حالة القصور والتبعية هذه. فنحن لا نجرأ على التفكير بشكل شخصي مستقل لان الكاهن او الأب او الحاكم هو الذي يفكر بدلا عنا. لقد تعودنا على الغاء عقولنا الى درجة اننا اصبحنا كالقاصر الذي يحتاج دائما الى وصي يقف فوق رأسه لكي يقول له ما الذي ينبغي ان يفعله او لا يفعله. هكذا نجد ان التنوير، بحسب كانط، يعني خروج البشرية من مرحلة القصور العقلي والتوصل الى مرحلة المسؤولية العقلية. ولكن هذه عملية صعبة وعسيرة. وكانط نفسه يعتبر ان البشرية الاوروبية في عصره لم تكن متنورة بعد وانما سائرة نحو التنوير. وهذا انجاز كبير بحد ذاته. فالتنوير يحتاج الى وقت طويل. وهو يبتدئ بالخاصة (او بالنخبة) لكي ينتهي بالعامة. واذا كان التنوير قد ابتدأ في القرن الثامن عشر في حلقات الفلاسفة والصالونات الادبية الباريسية، فانه لم ينتقل الى الشعب الا بشكل تدريجي اثناء القرن التاسع عشر والعشرين. وكان ذلك عن طريق انتشار الافكار الجديدة التي أشعَّت من المركز لكي تصل الى الاقاليم والمحافظات النائية، ثم عن طريق التربية والتعليم والمدرسة...الخ.
قرن لم يعد يؤمن الا بالتجربة المحسوسة ودراسة ظواهر الطبيعة بشكل واقعي لا نظري
لا ريب في ان عقلانية القرن الثامن عشر كانت امتدادا لعقلانية القرن السابع عشر. ولكن كان هناك فرق اساسي بينهما وهو ان الاولى كانت اكثر تجريبية ومحسوسية، في حين ان الثانية كانت اكثر تجريدية وميتافيزيقية. فالقرن الثامن عشر لم يعد يؤمن الا بالتجربة المحسوسة ودراسة ظواهر الطبيعة بشكل واقعي لا نظري. واذا كان غاليليو هو المرجعية العلمية العليا للقرن السابع عشر، فان اسحاق نيوتن هو المرجعية العليا بالنسبة للقرن الثامن عشر. وهو مفكر تجريبي عملي لا يهمه توليد الفرضيات والنظريات بقدر ما يهمه استكشاف الواقع واستخلاص القوانين التي تتحكم به. ومعلوم انه هو الذي اكتشف قانون الجاذبية الكونية الذي يتحكم بالكون كله. وهو الذي رسخ المنهجية التجريبية (أو الطبيعية) على اثر فرانسيس بيكون وغاليليو. وهكذا راحت العقلية العلمية تفرض نفسها نهائيا في القرن الثامن عشر. وكانت هي السبب في تفوق اوروبا على جميع شعوب الارض. فالعلم هو اساس التكنولوجيا والصناعة، وبالتالي الثروة والغنى، واستغلال موارد الطبيعة.
وفي ذات الوقت راح الفلاسفة ينخرطون، كما قلنا، في معركة شرسة مع اللاهوتيين او رجال الدين. وذلك لان الساحة كانت محتلة من قبلهم وافكارهم كانت تهيمن على عقول اغلبية الشعب. وبالتالي فلكي تنجح الفلسفة في مهمتها فانها كانت مضطرة لسحب البساط من تحت اقدام الكهنة. فالمعركة كانت تدور حول المشروعية الفكرية. من الذي سيمتلكها او يسيطر عليها: العقلانيون ام المتدينون؟ بالطبع كانت هذه المشروعية في أيدي المتدينين منذ عدة قرون، ولكن الفلاسفة كانوا يريدون انتزاعها من أيديهم. ولهذا السبب كانت المعركة حتمية بين الطرفين.وبناء على نتيجتها حسم المصير التاريخي للشعوب الاوروبية.
العقل لا يعترف بالمعجزات
والحداثة ليست الا وليدة هذا المخاض العسير. او تلك المعركة الشرسة. لكي نفهم طبيعة تلك المعركة ينبغي القول بان العقل لا يعترف بالمعجزات وبالاشياء الخارقة للطبيعة. وذلك لان العقل ينغرس في التجربة والطبيعة المحسوسة ويتقيد بقوانينها. واما الكهنة ورجال الدين عموما فكانوا يبنون وجودهم كله على المعجزات والتصورات الغيبية. فكيف يمكن ألا يحصل الصدام بين الطرفين؟ والواقع ان هذا الصدام لم فرنسيا فقط، وانما اوروبيا شاملا. ففي كل مكان راح الفلاسفة يطالبون بحقوق العقل في مواجهة هيبة الايمان والدين. وهي هيبة ضخمة وراسخة منذ مئات السنين وتسيطر على وعي الاغلبية العظمى من الشعب.
التنوير لا يعني الالحاد
وكانت الاصولية المسيحية بشقيها اليسوعي والجانسيني (نسبة الى القديس جانسينوس) تسيطر على الملايين في ذلك الزمان. ولكن العقل راح ينطلق من أغلاله وأصفاده، أي من الفكر اللاهوتي الجبار الذي يسيطر على كل شيء. وعملية الانطلاق هذه هي التي تشكل جوهر التنوير والحداثة.
ولكن هل يعني ذلك ان التنوير يعني الكفر والالحاد؟ هذا ما يتوهمه الكثير من الناس في العالم العربي بل ويتوهمه الكثيرين من مثقفي الحداثة السطحية او الهشة. ولكن حقيقة الامور شيء آخر. فكبار فلاسفة التنوير من أمثال فولتير، وروسو، وكانط كانوا مؤمنين حقيقيين. ولكنه ايمان مستنير قائم على العلم والبصيرة ورفض التعصب والاحكام المسبقة.
الله ليس حكرا للمسيحيين او اليهود او المسلمين
في الواقع ان عصر التنوير كان عصرا دينيا كبيرا بشكل من الاشكال. بمعنى اخر: فانه راح يولد فهما جديدا للدين مضادا للفهم السابق والظلامي. انه فهم يغرس وجود الله داخل الطبيعة والعقل، ويرفض الخرافات والخزعبلات. كما انه يتجاوز الدين التقليدي المحصور بطائفة واحدة او مذهب واحد لكي يشمل جميع البشر دون استثناء. فالله موجود في كل مكان، وهو للجميع، وليس فقط للمسيحيين او اليهود او المسلمين. وانما هو ايضا للصينيين الذين لم يعرفوا الوحي ابدا والذين يعتنقون فلسفة كونفيشيوس، كما انه للهنود، واليابانيين وبقية البشر.
وهكذا وسع فلاسفة التنوير من مفهوم الدين، وراحوا يتحدثون عن الدين الطبيعي او العقلاني مضاءة له بالدين الخارق للطبيعة او الغيبي. بل ان كانط راح يتحدث عن "الدين ضمن حدود العقل فقط".
وهذا الدين الطبيعي او الكوني قائم على فكرة واحدة: الايمان بوجود اله خالق للكون، او المهندس الاكبر، فلا مصنوع بدون صانع، ولا مخلوق بدون خالق. ولكن هذا الفهم الجديد يرفض العقائد والطقوس والشعائر لانها تختلف من دين الى اخر، وبالتالي لا تشكل جوهر الدين. فجوهره هو فعل الخير ونبذ الشر. والله، بحسب هذا التصور الفلسفي، عادل يقيم الحق بين البشر. فمن فعل خيرا كافأه، ومن فعل شرا عاقبه وجازاه. وبالتالي فان الايمان بوجود الله ضروري لاستقامة الحياة في المجتمع. فالمجرم قد يرتدع عن جريمته، او اللص عن سرقته، اذا ما عرف ان هناك الهاً يراه ويعاقبه. وكان من اكبر المؤمنين بهذا الدين العقلاني في فرنسا هو فولتير. وقد نظّر لهذا الايمان الجديد كثيرا ودافع عنه ضد الايمان التقليدي الذي كان يتهمه بالتعصب والانغلاق وزرع الفتنة والانقسام بين أبناء الشعب الواحد (أي بين الكاثوليك والبروتستانت). واما على المستوى الاجتماعي فان جزءا من البورجوازية وطبقة كبار النبلاء قد التحق ايضا بالفلاسفة وتخلى عن التدين التقليدي الذي يتمسك به عموم الشعب. وهكذا راحت تتشكل العقلية "الفولتيرية" لأول مرة، وهي العقلية التي سوف تسيطر على قطاعات واسعة من الشعب الفرنسي اثناء الثورة الفرنسية وفيما بعدها. وهكذا أرهص فولتير بعقيدة الكائن الأعلى العزيزة على قلب روبسبيير. والواقع ان هذا الاخير كان يرفض التيار الالحادي في التنوير ويتبع خط فولتير وبالاخص جان جاك روسو.
أخيرا لا يمكن ان نختتم حدثينا عن القرن الثامن عشر بدون تخصيص فقرة كاملة لأهم فيلسوف فيلسوف ظهر فيه: ايمانويل كانط (1724-1804). والواقع ان كانط بلغ بالتنوير ذروته، بل وتجاوزه الى ما بعده عندما بلور تظرية حديثة كليا فيما يخص استخدام العقل، ومشروعية هذا الاستخدام، وحدوده. فالعقل، على عكس ما نتوهم، ليس قادرا على كل شيء، وانما له حدود لا يتعداها. وفي كتابه الشهير "نقد العقل الخالص" راح كانط يتفحص قدرات العقل، وامكانياته، والحدود التي يتوقف عندها (او ينبغي ان يتوقف عندها) وقال بما معناه: بعض معارفنا العقلانية كالرياضيات والفيزياء تحظى بالاجماع وتشكل معرفة موضوعية بالفعل. ولكن بعض المعارف الاخرى التي تقوم على المحاجات العقلانية ايضا كـ"الميتافيزيقا" لا تحظى بالاجماع لدى الفلاسفة. وانما هناك انظمة ميتافيزيقية بقدر ما هناك فلاسفة (نظام ديكارت، نظام سبينوزا، نظام لايبنتز..الخ). فلماذا فشلت الميتافيزيقا، هناك حيث نجحت الرياضيات والفيزياء؟ لأن العقل الميتافيزيقي (أو الخالص) يحاول ان يفهم ما يتجاوز طاقته على الفهم. انه يحاول ان يفهم العالم الذي يكمن وراء الظواهر، او الشيء في ذاته، وهذا مستحيل. ينبغي اذن على العقل ان يعترف بحدوده او بمحدوديته وان يكتفي بدراسة الظواهر الطبيعية دراسة علمية تجريبية، متحاشيا ان يقول أي شيء عن عالم ما بعد الظواهر. وهكذا يتحاشى ان يتيه او يهوّم في متاهات الفراغ ويقول كل شيء عن اللاشيء.
ما هي الموضوعات التي شغلت العقل الميتافيزيقي على مدار التاريخ؟ انها الروح، والعالم، والله. هل الروح خالدة أم تموت مع الجسد؟& وما الذي سيحدث بعد الموت؟ ولكننا لا نستطيع الاجابة على مثل هذه لانها تتجاوز طاقة العقل البشري. فليكتف هذا العقل اذن بدراسة الظواهر الطبيعية واستخلاص القوانين منها من اجل خدمة البشرية وتحقيق التقدم. وليكف عن دراسة ما وراءها. فما يقوله لا قيمة له لانه عبارة عن خيالات وأوهام. وكل فيلسوف له نظامه الميتافيزيقي عن الموت، وما بعد الموت. وعن خلود الروح اوعدم خلودها، الخ. وهذا هو معنى نقد العقل الميتافيزيقي، او نقد العقل الخالص بحسب تعبير كانط. لذلك قال فيلسوف الألمان والتنوير جملته الشهيرة: حيث تنتهي حدود العلم تبتدئ حدود الايمان.
فما وراء العالم المحسوس، عالم التجربة والعيان، يوجد عالم اخر لا يستطيع العقل ان يصل اليه مهما حاول. وقد تكسرت رؤوس الفلاسفة من افلاطون وحتى اليوم على صخرة هذا السؤال الذي لا يعطي مفتاحه لبشري. وبالتالي فلنقبل بما يقوله الدين عنه ولنؤمن، هناك حيث يعجز العقل البشري ان يتقدم خطوة واحدة في فراغ المجهول... وهكذا أجاب كانط على أحد الاسئلة الثلاثة التي طرحها: ما الذي استطيع ان اعرفه؟
وهكذا اختمم القرن الثامن عشر بالايمان بأنذار العقل، وبالتفاؤل بقدرة العقل البشري على تحقيق التقدم للبشرية جمعاء، وكذلك تحقيق السعادة على هذه الارض، وليس انتظارها في العالم الاخر. واما الفكرة الاساسية الثانية فهي ان للعقل البشري على الرغم من عظمته حدوداً.
اقرأ الحلقات السابقة: