عندما يصدر هذا المقال سيكون قد مر أسبوع كامل علي نشر الحكومة الأمريكية لشريط الفيديو الذي يحمل الدليل علي مسؤولية السيد أسامة بن لادن عن أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، وربما سيكون الاهتمام العالمي والإسلامي بالشريط قد تراجع ذلك أن دورة الإعلام والأحداث قصيرة الزمن وما يبدو هاماً اليوم قد لا يكون كذلك بعد أيام قليلة. ولست علي أية حال أفضل من يبدي رأياً في حقيقة هذا الشريط وقيمته كدليل جرم، ذلك أنني منذ مرحلة مبكرة كنت وصلت إلي قناعة كافية بمسؤولية بن لادن وتنظيم القاعدة، وهو ما عبرت عنه في هذه المساحة من قبل.
بالرغم من ذلك فإن نشر الشريط في وقت أصبح فيه من الواضح أن الولايات المتحدة قد أطاحت حكومة طالبان وأوقعت دماراً ملموساً في معسكرات وأنظمة ارتباط القاعدة، هو مناسبة هامة لاستطلاع سريع لآثار أحداث وحرب الأشهر الثلاثة الماضية علي الوضع الإسلامي وعلي العلاقة بين العالم الإسلامي والقيادة الأمريكية للشأن العالمي.
يصعب من ناحية المادة التي احتواها شريط الفيديو إياه تصور أي أثر فعال له في تعزيز وجهة النظر الأمريكية في العالم، وفي العالم الإسلامي علي وجه الخصوص. القلة التي تدعم بن لادن مهما كانت مسؤولة عن الأعمال المنسوبة إليه ستبقي علي موقفها، والقلة التي تدينه وتعتقد بعدالة الموقف والسياسات الأمريكية ستجد في الشريط دليلاً إضافياً ليس إلا علي صواب وجهة نظرها، أما الأكثرية التي يؤرقها ربط أحداث أيلول (سبتمبر) بالإسلام والمسلمين وتجد من الصعوبة التوفيق بين إدانة القاعدة وزعيمها من ناحية وتسويغ الحرب الأمريكية علي أفغانستان من ناحية أخري، فستبقي علي الأرجح علي ألمها وقلقها وحيرتها. وقد بدا للوهلة الأولي أن الحكومة الأمريكية ترتكب خطأً إعلامياً فادحاً بنشرها للشريط وتقديمه للرأي العام باعتباره دليل الإدانة القاطع لبن لادن والقاعدة. فالشريط هو أصلاً أول دليل ملموس تعلنه الولايات المتحدة لتسويغ حربها علي أفغانستان، وهو ما يعني أن حرباً هائلة بآثارها السياسية والإنسانية قد شنت بدون أن يكون لدي واشنطن من دليل قاطع علي مسؤولية بن لادن والقاعدة، ناهيك عن مسؤولية نظام طالبان. ولكن الرسالة التي يحملها الشريط للمسلمين بشكل خاص هي في نظري أبعد من كونه دليل إدانة.
يقدم الشريط في المقاطع الأهم منه صورة ونصاً بالغي الدلالة لخطاب حافل برموز الإسلام، خطاب يتداخل فيه الاحتفال بالقتل الجماعي مع تعبيرات الإيمان والتقوي التقليدية المعروفة للوعي والذاكرة الإسلاميين. رسالة هذا الشريط هي طلب واضح للعرب والمسلمين، لحكوماتهم وشعوبهم، أن تتعرف علي الصورة الحقيقية لواحد منهم، ابنهم الذي يتكلم لغتهم ويستعير رموز وتعبيرات دينهم، صورته المثيرة للفزع. في هذا الشريط، إن أردنا أن نأخذ الأمور إلي نتائجها المنطقية، رسالة تهديد أمريكية، معنوية وفعلية في الآن نفسه. معنوياً، ثمة دعوة للإحساس الجماعي بالذنب والمسؤولية، وفعلياً، دعوة أخري لأن يتطهر الفضاء العربي والإسلامي من دوائر الدين الحاملة والمولدة لظاهرة بن لادن. هذا أولاً.
بعكس كل التصريحات العلنية، يسود اعتقاد واسع في الدوائر الأمريكية الرسمية، وربما كذلك في الدوائر الأوروبية الغربية، أن مشكلة بن لادن هي مشكلة الإسلام ككل، مشكلة دور الإسلام وموقعه وحيويته. وأن هذه المشكلة تتطلب، إن صح التعبير، حرباً شاملة تطال دوائر العنف والإرهاب كما تطال دوائر السياسة والحكم والتعليم والثقافة. انحازت الإدارة الأمريكية، كما يبدو، إلي أصوات المجموعة اليهودية الأمريكية الصغيرة التي تروج منذ مطلع التسعينات علي الأقل لمقولة واحدة، بسيطة وقاطعة، أن كل الإسلاميين سواء وأن مجرد استعارة الإسلام كهوية سياسية أو إطار مرجعي فكري لتصور الشأن الاجتماعي هو خطر وتطرف ومصدر تهديد للسلام العالمي، إن كان هناك ثمة شيء يمكن وصفه بالسلام العالمي. الباعث الأساسي وراء هذه الدعوي يتعلق بالموقف الإسلامي الصلب من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولكن أحداث أيلول (سبتمبر) فتحت الأبواب واسعة لأن تتحول هذه الدعوي إلي قناعة يعتنقها عدد متزايد من صناع القرار الأمريكي. سيؤدي هذا التطور إلي مزيد من التوتر في علاقة العالم الإسلامي بالولايات المتحدة، توتر سيترك آثاره هذه المرة علي علاقات الدول والأنظمة العربية والإسلامية بواشنطن وليس فقط علي مواقف الشعوب. عندما يصبح الإسلام ككل هو المشكلة من وجهة النظر الأمريكية، فإن حرب الإسلام ستطال كل أحد، كل دائرة، كل جهة وكل شيء.
بيد أن حقيقة الموقف علي الجانب الإسلامي أن حرب الشهرين الماضيين كانت خاتمة، وليس بداية، هزيمة تيار العنف المسلح الإسلامي. لقد هزم هذا التيار ليس لأن قواه فشلت في الصمود أمام آلة الحرب الأمريكية، وما كان لأحد أن يتوقع هذا الصمود غير المتكافئ، بل أصلاً لأن هذا التيار أثبت مرة بعد الأخري أنه لا يملك استراتيجية عمل متماسكة، لا يملك رؤية متوازنة للدين، ولا يملك تصوراً صائباً للواقع وعلاقات القوي.
باقتراب الحملة الأمريكية علي أفغانستان من نهايتها تكون القاعدة قد أودت بنظام طالبان الذي وفر لها الحماية والملاذ الآمن، تكون قد خسرت تماسكها التنظيمي علي مستوي العالم، وأودت بحياة عشرات الألوف من الأفغان وغير الأفغان في محاولة عبثية بدأت باستفزاز آلة الحرب الأمريكية الهائلة. الأسوأ من ذلك، هو الأثر السلبي واسع النطاق الذي تركته أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) علي وضع الإسلام في العالم، وضع أقلياته ووضع شعوبه وقواه في فلسطين وغيرها من المناطق الواقعة تحت الاحتلال. ولكن فشل النهج الذي تمثله القاعدة لم يكن فشلاً فريداً. ففي الجزائر تحول العنف الإسلامي المسلح إلي مجزرة بشعة طالت الصغير والكبير والأخضر واليابس، وبدلاً من نجاحه في تقويض عري النظام العسكري الجزائري نجح في إضعاف قوي الإسلام السياسي، وتعميق حالة انقسام المجتمع الجزائري وإشعال حرب أهلية بكل ما في الكلمة من معني. في مصر، وصل العنف الإسلامي المسلح إلي طريق مسدود بلغ من إغلاقه أن حاولت القوي الإسلامية المسلحة تجاوزه بعشرات القتلي من السياح الأوروبيين الأجانب.
ليس العنف السياسي بظاهرة جديدة في العالم الإسلامي، بل يعود في جذوره إلي منتصف القرن التاسع عشر علي الأقل، عنف المقاومة الهندية الإسلامية للاحتلال البريطاني، المقاومة الجزائرية للغزو الفرنسي، ومقاومة القوي التقليدية في إيران والمجتمع العثماني ضد عنف مشاريع التحديث في السلطنتين. العنف هو وليد الأزمة، أزمة المواجهة التاريخية غير المسبوقة بين مجتمع عميق التسمك بتقاليده والمشروع الغربي الحديث. وهذه الأزمة ما زالت تتفاعل. الإسلاميون هم آخر الوافدين إلي حقل العنف السياسي بعد أن أشرعت السلاح القوي الوطنية المناضلة ضد الاحتلال الأجنبي في مرحلة ما قبل الإسلام السياسي، ثم القوميون والماركسيون. بشكل من الأشكال، كلما أغلقت أبواب التغيير بالطرق السياسية انفجر العنف بأشكال ومستويات متفاوتة.
كان انفجار العنف الإسلامي في مطلع التسعينات مؤشراً علي الاحتقان السياسي، احتقان ما بعد حرب الخليج والتواجد الأمريكي في المنطقة، احتقان فشل النظام العربي الرسمي في التنمية ومواجهة العربدة الإسرائيلية، والاحتقان الناجم عن احتكار القوة والثروة واستبداد السلطة. ولكنه كان مؤشراً أيضاً علي فشل بعض أجنحة الإسلام السياسي عن إدراك حقيقة أن قيم الإسلام الثابتة هي قيم ثابتة فعلا لا يمكن تطويعها للأهواء والظروف والسياقات المختلفة، وعلي فشل هذه الأجنحة في تعلم درس حركات التغيير جميعاً في أن عنف المعارضة مهما بلغ من فعالية هو أعجز عن مواجهة عنف الدولة، وعلي فشلها في قراءة أولويات الأمة. في أبلغ دلالاته، كان العنف دليلاً علي اليأس وقصر النفس وفقدان الثقة في العمل الجماهيري. ليست المشكلة في حقيقة أن القوي الإسلامية المسلحة سعت إلي استهداف المدنيين أو أنها وجدت نفسها مجبرة علي ذلك، أنها أرادت إطالة أمد الصراع الداخلي أو دفعت إلي ذلك، المشكلة أن للعنف السياسي منطقه ودينامياته التي تتجاوز نوايا وأهداف ومخططات مـــن يلجأون إليه.
كما في معظم الحالات المشابهة، بدأ العنف الإسلامي محدوداً ومعزولاً، ثم تحول شيئاً فشيئاً إلي عنف شامل واسع النطاق استهدف قادة الدول وحراس المخازن البؤساء، وسائقي السيارات وفلاحي القري، والسائحين الأجانب، حتي وصل إلي لحظة العنف عالمية الإبعاد، غيرالمسبوقة في تاريخ العنف السياسي كله. في كل مرحلة من مراحله، كان فشل العنف متناسباً مع مستواه وحدته، وقد وصل الآن فعلاً إلي نهاية الطريق. سيحتاج الإسلام السياسي فترة من الزمن ربما ليستعيد توازنه وعافيته من الهجوم العالمي الشرس الذي يتعرض له الآن. ولكن هزيمة توجهات العنف ستكون في النهاية حتمية لتبلور حياة سياسية صحيحة في مختلف بلدان العالم الإسلامي، ولتبلور تصورات إسلامية أكثر تماسكاً وأوسع رؤية وأثبت قدماً.(القدس العربي اللندنية)