&

تحليل عسكري : نبيل شرف الدين
وصلت إدارة بوش إلى السلطة وقد عقدت العزم على تحديث قواتها المسلحة بشكل جذري، فقادت أميركا في اول نزاع مسلح تخوضه في القرن الحادي والعشرين مطلقة حربا جوية عالية التقنية في أفغانستان، رافقها انتشار قوات على الأرض لدعم القوات الأفغانية المعارضة لحركة طالبان.
وان كانت الاستراتيجية المعتمدة في هذا النزاع لن تأتي بالضرورة بثمار في مواجهة خصوم اكثر ضراوة، إلا ان عملية "الحرية الدائمة" التي بدأت في 7 تشرين الاول/اكتوبر ردا على هجمات 11 ايلول/سبتمبر أثبتت بدون شك التفوق العسكري للقوة العظمى الوحيدة في اللحظة التاريخية الراهنة.
وإن كانت الولايات المتحدة خفضت منذ انتهاء الحرب الباردة حجم قواتها الى 1.4 مليون جندي، الا ان البنتاغون حصل في كانون الأول/ديسمبر على زيادة في موازنة الدفاع قدرها 343.3 مليار دولار، وهو مبلغ هائل يفوق مجموع النفقات العسكرية للدول الثماني التالية من حيث موازنة الدفاع، مع انه لا يمثل سوى جزء ضئيل يقارب 3% من إجمالي الناتج المحلي الأميركي وفقاً للمحلل العسكري الأميركي مايكل اوهالون، فقد انطلقت القوات الأميركية في بادئ الأمر في مطاردة اسامة بن لادن فشنت حربا من اجل استئصال الإرهاب تنبأ الرئيس الأميركي جورج بوش بأنها ستكون طويلة وأليمة، واعرب المخططون العسكريون الأميركيون عن ارتياحهم لتمكنهم منذ المرحلة الأولى من هزم قوات طالبان بسرعة بواسطة عمليات قصف عالية الدقة لم تسفر سوى عن عدد ضئيل جدا من الضحايا الأميركيين.
فرانكس.. نجم يسطع
من أكثر المظاهر غير العادية في الحرب التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية على أفغانستان أن يكون قائد المعركة على الجانب الآخر من ساحة القتال، فهناك انزعاج بعض الشيء في القوات المسلحة خاصة في القوات الجوية والجيش، فقد قرر الجنرال تومي فرانكس إبقاء المقر الرئيسي لقواته في مبنى القيادة المركزي الذي يأخذ شكل المكعب في قاعدة تامبا التي تطل على مياه خليج هيلزبورو الفاترة، وقال النقاد إنه لابد وأن فرانكس يسير على درب سلفه في القيادة المركزية، الجنرال نورمان شوارسكوف الذي انتقل إلى المملكة العربية السعودية لقيادة حرب الخليج عام 1991.
وعلى الرغم من ذلك فإن العديد في القوات المسلحة يرون أن فرانكس تصرف بشكل مناسب نظرا للتقدم في مجالات تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات كما أنه أدار الحرب بشكل ممتاز جزئيا عن بعد. وفي حوار عن طريق البريد الإلكتروني شرح فرانكس منهجه فيما أسماه "حرب مختلفة بالفعل." وقال إن الحفاظ على موقع القيادة في فلوريدا كان فعالا جدا من وجهة نظرنا وذلك بفضل المساعدات التكنولوجية.
وأضاف أن هذه الطفرة في عالم الاتصالات قد سمحت لنا بإنجاز المقاصد والإرشادات دون القيام بالتكتيكات التي يؤديها القادة التابعون. وقال فرانكس أيضا أنه منذ بداية الحرب أمضى أكثر من 25 % من وقته في أو بالقرب من أفغانستان، وهي نسبة أكبر من التي قد يتوقعها النقاد. وكتب يقول "سوف أترك القيادة لآخرين للحكم على فعاليتها."
القيادة عن بعد
وعلى الرغم من نجاحه خلال الثلاثة أشهر الماضية يقول بعض الضباط الذين اشتركوا في الحرب على أفغانستان إن إدارة فرانكس للحرب عن بعد لم تتأثر بالمكان المتواجد فيه. هذا وقد كان ضباط القوات الجوية صريحين في استنكار ما يرونه على أنه التعامل مع الهدف المختار من قبل فريق فرانكس في فلوريدا، لكن التوترات امتدت، وقال ضابط بالجيش الأميركي اشترك في الحرب "إن الأفكار أو المبادرات الصائبة التي تأتي على بعد مئات أو آلاف الأميال قد لا تكون جيدة بالنسبة لمن عليهم تنفيذها سواء في البر أو في الجو." فالمناقشة هامة لأنه كما أشار فرانكس في تعليقات البريد الإلكتروني فإن وسيلة حرب أميركية جديدة تلوح في الأفق مبنية على الاتصالات ذات السرعة الفائقة، والتي تستخدم في الضربات طويلة الأمد باستخدام أسلحة دقيقة تعتمد بشكل كبير على تكنولوجيا المعلومات الجديدة.
هذا وقال جنرال متقاعد إن قيادة فرانكس الطويلة للجيش قد تصبح نموذجا للحروب المستقبلية، وأضاف مستخدما لغة القوات العسكرية الأميركية بالنسبة لقادتها الإقليميين"إن خيارات فرانكس في هذه الحرب قد تؤثر فيما يفعله القائد العام في المستقبل." وتتمثل النظرة التقليدية في أن فرانكس يجب أن يكون قريبا من الحدث. وقال الكولونيل المتقاعد جيمس ماكدونو المدير السابق لمدرسة النخبة العسكرية للدراسات العسكرية المتقدمة "نحن بصدد حجة تقول بأن تواجد القائد في ساحة القتال هام جدا لأنه يمكنه من اتخاذ القرارات بسرعة كما أنه يرفع من معنويات الجنود. وقال كولونيل بالجيش "لا أعتقد أن فرانكس قد يتواجد في أفغانستان ولكنه قد يكون في مكان أقرب من ذلك، فإن على القادة العسكريين أن يلهبوا حماس الجنود ومن ثم فإن عليهم الظهور كي يراهم الجنود." وأضاف الكولونيل أن هذا الأمر يمكن أن يكون صائبا خاصة عندما تكون هناك معوقات، فعندما يحدث هرج ومرج فالقائد يكون بحاجة إلى أن يكون في ميدان المعركة."
وقال كولونيل آخر بالجيش "إن موهبتي تقول بأن على القائد أن يكون في المقدمة" مشيرا إلى أن نفس التقدم في التكنولوجيا والذي سمح لفرانكس أن يدير المعركة في تامبا سيسمح له أن يظل على اتصال بالبنتاجون والقيادة المركزية من ميدان المعركة حتى في المواقع النائية أو على متن سفينة. وأضاف "نحن نمتلك تكنولوجيا الاتصالات التي تمكننا من الاتصال به." وقال تشارلز هورنر الجنرال بالقوات الجوية المتقاعد الذي قاد الحملة الجوية في حرب الخليج ببساطة "لقد كنت في المقدمة"
جنرال إلكتروني
وقال آخرون إن النقاد فشلوا في أن يأخذوا في حساباتهم التغييرات في التكنولوجيا وربما قد يكون في طبيعة القيادة. هذا وقد أشاد بعض النقاد بالجنرال جورج باتون بطل الحرب العالمية الثانية الذي عرف بالألم الشديد الذي عاناه في قيادة الجيش من المقدمة كنموذج يحتذي به في القيادة. وقال باتون المتتبع لحياه كارلو دي ستيت ضابط الجيش المتقاعد إن قائد المدرعات كان يستجيب لظروف الحرب. وقال ستيت "لقد أراحت الاتصالات فرانكس حيث مكنته من قيادة الجيش من المنزل، فهذه هي حرب المستقبل."
وقد اتفق العديد من الخبراء حيث ذكروا أن سيل معلومات الحرب يمكن أن تنتقل في جميع أنحاء الكرة الأرضية بطريقة فورية. وقال مساعد أحد أعضاء مجلس الشيوخ الذي عمل بالشئون العسكرية "إن معلوماتنا وقدرتنا على رؤية ساحة القتال نتيجة لأشياء مثل الطائرة بدون طيار من طراز " بريديتور" قد غيرت الاتصالات البعيدة عن ساحة القتال كل شيء نعرفه جذريا." وأضاف أن النتيجة هي أن فرانكس يمكنه أن يجلس في مقر القيادة الرئيسي في تامبا ويراقب الموقف عن بعد. وقال "لقد أصبحت الأشياء التي لم نكن نراها بالفعل منذ 10 سنوات واقعا."
واستنتج مايكل فيكارس ضابط القوات الخاصة السابق والخبير بالإصلاح العسكري أن فرانكس في مكانه المناسب بتامبا. وقال فيكرز إن التغييرات في الطريقة التي تحارب بها القوات العسكرية تملى تغييرات موازية في وسائل القيادة. وأضاف فيكرز اليوم إن القوة العسكرية الأميركية أصبحت أكثر انتشارا وخفة ولامركزية. ولذلك قال إن طبيعة القيادة يجب أن تتوافق مع هذا.
وقال خبراء عسكريون آخرون إن كون الشخص جنرال كبير فإن مهمة ساحة القتال التي تتطلب تواجد قائد لقيادة وتحفيز القوات لم تعد تمثل مشكلة. وقال أحد الجنرالات "إن القيادة ليست شاقة. فالحرب قد تغيرت وستستمر في التغير فقد وقف نابليون على التل في "روسوم" ووجه القوات من فوقه، بينما وقف ويلينجتون على تل ماونت سينت جين المقابل ووجه جميع الكتائب من هناك. فقد ذهبت الأيام التي يحارب فيها القادة على المستوى الاستراتيجي بعينه." وأضاف الضابط أن فرانكس قد فهم صوابا دوره لأن يصبح أكثر استراتيجية لا تكتيكيا. فالجنرالات في حاجة لأن يكونوا مهندسين لأنظمة مؤسسية وموزعي موارد. وأعتقد أن فرانكس يقوم بهذا بشكل أكثر من جيد."
وعلى الرغم من ذلك فقد كان الجنرال المتقاعد توماس بورنت أكثر حدة حين قال إن منتقدي فرانكس قد انتقدوه عن غير فهم. وقال بورنت إن المشكلة مع بعض القادة تتمثل في أنهم لا يقودون فوق مستوى اللواء (الفرقة) وليس لديهم حل بخصوص الدور الذي على القائد العام أن يلعبه." وأضاف بورنت أنه يعتقد أن فرانكس قام بوظيفة عظيمة ومن الإجحاف أن يأخذ منه البعض هذا النوع من الانتقاد الرخيص." وقد عارض كولونيل بحدة وقال إنه من المناسب أن نتحدث عن النجاحات التي حققها. وقال الكولونيل "وعلى الرغم من ذلك فإننا سنكون محظوظين فيما بعد مع تركيبات القيادة بعيدة المدى ولكننا سوف لا نكون سعداء دوما في المستقبل."
تجربة كوسوفو
وبعد تدريب خلال حرب كوسوفو التي اخضعت صربيا بزعامة سلوبودان ميلوشيفيتش عام 1999، اتسمت حرب أفغانستان بتقنية عالية تفوق بكثير تقنية حرب الخليج قبل عشر سنوات.
وأوضح الناطق العسكري الأميركي اللفتنانت كولونيل ديفيد لابان ان ستين في المئة من القنابل التي القيت على أفغانستان هي من القنابل عالية الدقة مقابل عشرة في المئة فقط ضد العراق عام 1991. ويتم تسيير هذه القنابل بواسطة الأقمار الصناعية أو أشعة الليزر وتصيب هدفها بدقة متزايدة باستمرار، بالرغم من بعض الأخطاء في التصويب التي حصدت إعدادا من القتلى بين المدنيين.
كما أبدى رئيس أركان سلاح الجو الأميركي الجنرال جون جامبر ارتياحه للاهمية التي اكتسبتها حديثا طائرات الاستطلاع بدون طيار مثل طائرات "غلوبل هوك". وهذه الطائرات قادرة على التحليق طويلا لتحديد مواقع العدو بشكل فوري ومن المرجح ان تزداد اهمية في المستقبل.
غير ان تسلل مئات العناصر من القوات الخاصة الأميركية واجهزة السي.اي.ايه. بهدف جمع المعلومات كانت له مساهمة حاسمة في مجرى الحرب اذ قام هؤلاء العناصر بتحديد الاهداف للطائرات عبر اللاسلكي والتوجيه باشعة الليزر.
والواقع ان الحملة الجوية التي اطلقها اساسا اسطول حاملات الطائرات المحتشد في المحيط الهندي لم تكن في نظر الخبراء سوى واحد من عناصر النجاح، وقد ساهم إرسال مشاة من الوحدات الخاصة بالإضافة إلى حوالي 1300 عنصر من قوات المارينز بشكل كبير في هذا النجاح، كما كان للقوات المحلية الحليفة من مقاتلي تحالف الشمال دعما حاسما في الحملة على أفغانستان.
ويحذر بعض الخبراء انطلاقا من ذلك من اعتماد الاستراتيجية ذاتها في ظروف مغايرة، ويقول كريس هيلمان الخبير في مركز استخبارات الدفاع في هذا السياق "كان لنا في أفغانستان العزم السياسي على نشر قوات على الارض وحظينا بمساعدة اعداد كافية لمطاردة قوات طالبان. لن يكون الوضع مماثلا بالضرورة في العراق او في دول اخرى" حيث قد تضطر واشنطن الى خوض حرب.
بالطبع، كان البنتاغون يراهن منذ زمن على تهديدات الضعفاء ولا سيما الارهابيين "غير المتناسبة" مع القدرات العسكرية الأميركية، غير ان اعتداءات 11 ايلول/سبتمبر اعادت توجيه المجهود العسكري الى داخل الولايات المتحدة، في حين ظن الأميركيون بعد ستين سنة على الهجوم الياباني على بيرل هاربر ان بلادهم محصنة تماما، حتى انهم أهملوا مثلا تغطية الرادار لها، وباتت مطاردات تحلق فوق المدن الكبرى في حين فرضت إجراءات مراقبة اكثر تشددا على المرافئ واستدعي اكثر من خمسين ألف احتياطي للخدمة لـ"الدفاع عن الوطن".
وفي هذا السياق يعرب وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، الذي اكتسب وزنا سياسيا اكبر عما كان عليه الحال قبل الهجمات، عن مخاوفه من تهديدات بأسلحة الدمار الشامل، مشددا على ضرورة "إجراء تغييرات في القوات المسلحة لمواجهة تحديات القرن الجديد"، ويطالب خلافا لرأي المسؤولين العسكريين بزيادة قدرة سلاح البر على الحركة وإغلاق المزيد من القواعد وتعليق بعض البرامج.
كما يسعى رامسفيلد من اجل نشر درع لم يتخذ قرار بشأنها حتى الآن لاعتراض صواريخ قد تطلقها "دول مشاغبة". وقد أيد بوش رأيه إذ إعلان انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة ايه.بي.ام. الموقعة مع موسكو والتي كانت تحد من الدفاع الأميركي المضاد للصواريخ، بالرغم من ان ذلك يهدد بإعادة إطلاق سباق التسلح في الصين وآسيا.